(قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً) (1).
زَعَم الـمـُتعرّب الـمـُتكلّف - الأجنبي عن لغة العرب - أنّ الحنيفيّة هي الميل عن الصراط السويّ، وقد استعملها القرآن في غير معناها الأصيل.
قال: وكثيراً مّا يستعمل القرآن الألفاظ العربيّة في غير ما وُضعت له، من ذلك تعبيره عن دين إبراهيم بالحنيف يعني به القويم، لكن العرب تعني بالحَنَف الاعوجاج؛ ولذلك تُسمّي عابد الوثن حنيفاً لميله عن الدِّين القويم!
وزَعَم أنّ ذلك ممّا موّهته اليهود على صاحب القرآن فلقّنته؛ ليدعو دين إبراهيم حنيفاً، تعبيراً عليه ليُفضح أمره عند العرب، فانخدع بذلك من غير دراية بمعناه العربي الأصيل (2).
يا لها مِن جَهالة عارمة تُنبؤك عن غباوةٍ فاضحة!!
كيف يَنخدع نبيّ الإسلام بمفاهيم لغةٍ كان فِلْذَتها ولسان أمّة كان من صميمها، أفهل يُعقل أن يتلاعب أناس أباعِد - هم جالية المنطقة - بذهنيّة فحلٍ فخمٍ كان نابتة الرَّبوة العَليّة، أين العجم من أبناء إسرائيل من العرب من أبناء قريش؟! وأين الهجين من العتيق الأصيل؟!
ولعلّ الـمـُتعرّب المسكين هو الذي انخدع بتلك التهجينات المفضوحة فحَسِبها لُـجّة، وما هي إلاّ سراب فارغ!
كان مُنذ الجاهلية أناس يُدعَونَ بالحُنفاء؛ حيث تنزّهوا الأدناس ورَغِبوا في الحنيفيّة البيضاء، دين إبراهيم الحنيف.
اجتمعت قريش يوماً في عيدٍ لهم عند صنم كانوا يُعظّمونه وينحرون له ويعكفون عنده ويَدورون به، وكان ذلك عيداً لهم في كلّ سَنة يوماً، فَخَلُصَ منهم أربعة نفر نجيّاً (3)، ثُمّ قال بعضهم لبعض: تصادقوا وَلِيَكْتم بعضكم على بعض، قالوا: أجل - وهم: ورقة بن نوفل، وعبيد اللّه بن جحش، وعثمان بن حويرث، وزيد بن عمرو، من أفذاذ قريش - فقال بعضهم لبعض: تَعلمون واللّه ما قومكم على شيء! لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم! ما حجرٌ نطيف به، لا يسمع ولا يُبصر ولا يضرّ ولا ينفع! يا قوم، التمسوا لأنفسكم ديناً، فإنّكم واللّه ما أنتم على شيء، فتفرّقوا يَلتمسون الحنيفيّة دين إبراهيم (4).
وهؤلاء - وأمثالهم من غيرهم يومذاك - فارقوا دين قومهم واعتزلوا الوثنيّة وعبادة الأصنام وأَكل الـمِيتة والدم والذبائح على النّصُب وتقذّروا الفحشاء والمنكرات ووَأد البنات وما إليها من عادات جاهليّة سيّئة... وسُمّوا بالحنفاء؛ حيث اتّباعهم الحنيفيّة دين إبراهيم (عليه السلام).
والحنيفيّة، مِن الحَنف هي النزاهة والقداسة إنْ فكريّاً أو عمليّاً، وِفق الفطرة الأولى الضاحية.
قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (5)، وفي الحديث: سُئل عن الحنيفيّة؟ قال: هي الفطرة (6).
قال الراغب: الحَنف، هو مَيل عن الضلال إلى الاستقامة، والجَنَف، ميل عن الاستقامة إلى الضلال (7) والحنيف، المائل إلى الاستقامة، قال تعالى: (قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً) (8)، وقال: (حَنِيفاً مُّسْلِماً) (9)، وجَمعه: حنفاء، قال تعالى: (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ) (10).
قال: وتَحنّف فلانٌ أي تحرَّى طريق الاستقامة، وسمَّت العربُ كُلَّ مَن حجّ أو اختَتَن: حنيفاً؛ تنبيهاً أنّه على دين إبراهيم (عليه السلام).
قال أبو زيد: الحنيف، المستقيم، وأنشد:
تَعَلَّم أنْ سَيهدِيكُم إلينا
طريقٌ لا يجورُ بكُم حنيفُ
قال أبو عبيدة - اللغوي العلاّمة - في قوله عزّ وجل -: مَن كان على دين إبراهيم، فهو حنيف عند العرب.
قال الأخفش: كان في الجاهليّة يقال: مَن اختتن وحجّ البيت، حنيف؛ لأنّ العرب لم تتمسّك في الجاهليّة بشيء من دين إبراهيم غير الخِتان وحجّ البيت.
قال ابن عرفة: الحَنف، الاستقامة، وإنّما قيل للمائل الرجل أحنف تفاؤلاً بالاستقامة، كما يُقال للغراب أَعور وللصحراء القاحلة مَفازة.
قال الزجاجي: الحنيف في الجاهليّة مَن كان يحجّ البيت ويَغتسل من الجنابة ويَختَتَن (11).
وهكذا ذَكَر الفيروز آبادي في القاموس، قال: الحَنَف - محرّكة - الاستقامة.
وقد عَرفت أنّ إطلاقه على اعوجاج الرجل، كان بالعناية والمجاز تفاؤلاً، لا حقيقة.
قال الجارود بن بشر من عبد قيس، وكان نصرانيّاً فأَسَلم طَوعاً:
فأَبلِغ رسولَ اللّه منّي رسالةً
بأنّي حنيفٌ حيث كنتُ مِن الأرضِ
وقال حسّان بن ثابت يُخاطب أبا سفيان:
هَجَوتَ مُحمّداً بَرّاً حنيفاً
أَمينَ اللّه شِيمَتُه الوفاءُ (12)
وممّا يتأيّد التطهّر من الأقذار في مفهوم (الحَنف)، أنّ العرب اليوم يستعملون لفظة (الحنفيّة) يُريدون بها فَتحة أنابيب المياه للغَسل والشّرب؛ حيث كانت وسيلة التطهير من الأوساخ، وهو امتداد القديم المعروف عندهم (13).
فيا تُرى هل كان هؤلاء العرب الأقحاح انخدعوا جميعاً مُنذ أَوّل يومهم حتّى الآن بدسائس يهوديّة هزيلة لا وزنَ لها ولا اعتبار، اللّهمّ إلاّ في ذهنيّة مُتعرّبنا المسكين!!
ـــــــــــــــــــــــ
(1).. البقرة 2: 135.
(2). ملحق ترجمة كتاب الإسلام، ص424 - 425.
(3). أي انفرد منهم هؤلاء الأربعة وجعلوا يتناجون فيما بينهم، أي يتحدّثون سرّاً عن غيرهم.
(4). راجع: تفصيل القصّة في سيرة ابن هشام، ج1، ص237 - 248.
(5). الروم 30: 30.
(6). بحار الأنوار، ج3، ص276.
(7). كما في قوله تعالى: (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً) البقرة 2: 182، أي ميلاً عن الحقّ في الوصاية.
(8). النحل 16: 120.
(9). آل عمران 3: 67.
(10). الحج 22: 30 و31.
(11). لسان العرب، ج9، ص56 - 58.
(12). راجع: الهدى إلى دين المصطفى، ج1، ص386.
(13). راجع: المعجم الوسيط، ج1، ص203، مادّة (حنف)، وص 524 (الصنبور).
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان