قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

القسم في سورة النازعات

حلف سبحانه بأوصاف الملائكة خمس مرات، وقال:

(وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا).

(وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا).

(وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا).

(فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا).

(فَالـمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا * يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ) (1).

حلف سبحانه في هذه السورة بطوائف وصفها ب‍: النازعات، الناشطات، السابحات، السابقات، المدبرات.

النازعات من النزع، يقال: نزع الشيء جذبه من مقره، كنزع القوس عن كنانته.

والناشطات من النشط وهو النزع أيضاً، ومنه حديث أمّ سلمة فجاء عمار وكان أخاها من الرضاعة ونشط زينب من حجرها، أي نزعها ونشط الوحش من بلد إلى بلد إذا خرج.

والسابحات من السبح السريع في الماء وفي الهواء، ويقال: سبح سبحاً وسباحة، واستعير لمرّ النجوم في الفلك ولجري الفرس.

والسابقات من السبق والمدبرات من التدبير.

وأمّا الغرق اسم أُقيم مقام المصدر، وهو الإغراق، يقال: غرق في النزع إذا استوفىٰ في حدّ القوس وبالغ فيه.

هذه هي معاني الألفاظ، وأمّا مصاديقها فيحتمل أن تكون هي الملائكة، فهي علىٰ طوائف بين نازع وناشط وسابح وسابق ومدبر، قال الزمخشري: أقسم سبحانه بطوائف الملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد، وبالطوائف التي تنشطها أي تخرجها، وبالطوائف التي تسبح في مضيها، أي تسرع فتسبق إلى ما أمروا به فتدبر أمراً من أمور العباد مما يصلحهم في دينهم أو دنياهم (2).

والمقسم عليه محذوف وهو لتبعثنّ يدل عليه ما بعده من ذكر القيامة.

 

ولا يخفى أنّ الطائفة الثانية علىٰ هذا التفسير نفس الطائفة الأولى، فالملائكة الذين ينزعون الأرواح من الأجساد هم الذين ينشطون الأرواح ويخرجونها، ولكن يمكن التفريق بينهما، بأنّ الطائفة الأولى هم الموكّلون علىٰ نزع أرواح الكفار من أجسادهم بقسوة وشدة بقرينة قوله غرقاً، وقد عرفت معناه، وأمّا الناشطات هم الموكلون بنزع أرواح المؤمنين برفق وسهولة.

والسابحات هم الملائكة التي تقبض الأرواح فتسرع بروح المؤمن إلى الجنة، وبروح الكافر إلى النار، والسبح الإسراع في الحركة، كما يقال: للفرس سابح إذا أسرع في جريه.

والسابقات وهم ملائكة الموت تسبق بروح المؤمن إلى الجنة وبروح الكافر إلى النار.

فالمدبرات أمراً المراد مطلق الملائكة المدبرين للأمور، ويمكن أن يكون قسم من الملائكة لكلّ وظيفة يقوم بها، فعزرائيل موكل بقبض الأرواح وغيره موكل بشيء من التدبير.

ثمّ إنّ الأشد، انطباقاً على الملائكة، هو قوله: (فَالـمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا)، وهو قرينة على أنّ المراد من الأخيرين هم الملائكة، وبذلك يعلم أنّ سائر الاحتمالات التي تعجّ بها التفاسير لا يلائم السياق، فحفظ وحدة السياق يدفعنا إلى القول بأنّهم الملائكة.

وبذلك يتضح ضعف التفسير التالي :

المراد بالنازعات الملائكة القابضين لأرواح الكفّار، وبالناشطات الوحش، وبالسابحات السفن، وبالسابقات المنايا تسبق الآمال، وبالمدبرات الأفلاك، ولا يخفىٰ أنّه لا صلة بين هذه المعاني وما وقع جواباً للقسم وما جاء بعده من الآيات التي تذكر يوم البعث وتحتج على وقوعه.

والآيات شديدة الشبه سياقاً بما مرّ في مفتتح سورة الصافات والمرسلات، والظاهر أنّ المراد بالجميع هم الملائكة.

يقول العلّامة الطباطبائي: وإذ كان قوله: (فَالـمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا) مفتتحاً بفاء التفريع الدالة على تفرع صفة التدبير علىٰ صفة السبق، وكذا قوله: (فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا) مقروناً بفاء التفريع الدالة علىٰ تفرع السبق على السبح، دلّ ذلك علىٰ مجانسة المعاني المرادة بالآيات الثلاث: (وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا * فَالـمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا) فمدلولها أنّهم يدبرون الأمر بعدما سبقوا إليه ويسبقون إليه بعد ما سبحوا أي أسرعوا إليه عند النزول، فالمراد بالسابحات والسابقات هم المدبرات من الملائكة باعتبار نزولهم إلى ما أمروا بتدبيره (3).

 

تدبير الملائكة

إنّ القرآن الكريم يعرّف الله سبحانه هو المدبر والتوحيد في التدبير من مراتبه فله الخلق والتدبير، ولكن هذا لا ينافي أن يكون بينه سبحانه وبين عالم الخلق وسائط في التدبير يدبرون الأمور بإرادته ومشيئته، ويؤدّون علل الحوادث وأسبابها في عالم الشهود، والآيات الواردة حول تدبير الملائكة كثيرة تدل على أنّهم يقومون بقبض الأرواح وإجراء السؤال، وإماتة الكل بنفخ الصور وإحيائهم بذلك ووضع الموازين والحساب والسوق إلى الجنّة والنار.

كما أنّهم وسائط في عالم التشريع حيث ينزلون مع الوحي ويدفعون الشياطين عن المداخلة فيه وتسديد النبي وتأييد المؤمنين.

وبالجملة هم (عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (4) فالله سبحانه يجري سننه ومشيئته بأيديهم، فيقبض الأرواح بواسطتهم، وينزل الوحي بتوسيطهم، وليس لواحد منهم في عملهم أي استقلال واستبداد، وفي الحقيقة جنوده سبحانه يقتفون أمره (5).

قال أمير المؤمنين عليه ‌السلام في حقّ الملائكة: فمنهم سجود لا يركعون، وركوع لا ينتصبون، وصافُّون لا يتزايلون، ومسبِّحون لا يسأمون، لا يغشاهم نوم العين، ولا سهو العقول، ولا فترة الأبدان، ولا غفلة النِّسيان، ومنهم أمناء على وحيه، وألسنة إلى رسله، ومختلفون بقضائه وأمره، ومنهم الحفظة لعباده والسَّدنَة لأبواب جنانه، ومنهم الثابتة في الأرضين السُّفلى أقدامُهُم، والمارقةُ من السماء العليا أعناقُهُم، والخارجة من الأقطار أركانُهم، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم. ناكسة دونه أبصارهم، متلفِّعون تحته بأجنحتهم، مضروبة بينهم وبين من دونهم حُجُب العزَّة وأستار القدرة، لا يتوهَّمون ربَّهم بالتَّصوير، ولا يجرون عليه صفات المصنوعين، ولا يحدُّونه بالأماكن، ولا يُشيرون إليه بالنَّظائر (6).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1). النازعات: 1 ـ 9.

(2). الكشاف: 3 / 308.

(3). الميزان: 20 / 181.

(4). الأنبياء: 26 ـ 27.

(5). الميزان: 20 / 188، نقل بتلخيص.

(6). نهج البلاغة: 19 ـ 20، الخطبة الأُولى.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد