قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطبطبائي
عن الكاتب :
مفسر للقرآن،علامة، فيلسوف عارف، مفكر عظيم

كلام فيما هو الرّوح في القرآن‏

تكرّرت كلمة الروح - والمتبادر منه ما هو مبدأ الحياة - في كلامه تعالى ولم يقصرها في الإنسان أو في الإنسان والحيوان فحسب بل أثبتها في غيرهما كما في قوله: ( فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) مريم: 17، وقوله: (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) الشورى: 52 إلى غير ذلك فللروح مصداق في الإنسان ومصداق في غيره.

والّذي يصلح أن يكون معرّفاً لها في كلامه تعالى ما في قوله: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) إسراء: 85 حيث أطلقها إطلاقاً وذكر معرّفاً لها أنّها من أمره وقد عرّف أمره بقوله: (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ) يس: 83، فبيّن أنّه كلمة الإيجاد الّتي هي الوجود من حيث انتسابه إليه تعالى وقيامه به لا من حيث انتسابه إلى العلل والأسباب الظاهريّة.

 

وبهذه العناية عدّ المسيح عليه‌ السلام كلمة له وروحاً منه إذ قال: (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى‏ مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ) النساء: 171 ، لـمّا وهبه لمريم عليها ‌السلام من غير الطرق العاديّة ويقرب منه في العناية قوله تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسى‏ عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) آل عمران: 59.

وهو تعالى وإن ذكرها في أغلب كلامه بالإضافة والتقيد كقوله: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) الحجر 29، وقوله: (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) السجدة: 9، وقوله: (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) مريم: 17، وقوله: (وَرُوحٌ مِنْهُ) النساء: 171، وقوله: (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) البقرة: 87، إلى غير ذلك إلّا أنّه أوردها في بعض كلامه مطلقة من غير تقييد كقوله: (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) القدر: 4، وظاهر الآية أنّها موجود مستقلّ وخلق سماويّ غير الملائكة، ونظير الآية بوجه قوله تعالى: (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) المعارج: 4.

 

وأمّا الروح المتعلّقة بالإنسان فقد عبّر عنها بمثل قوله: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) وأتى بكلمة (مِنْ) الدالّة على المبدئيّة وسمّاه نفخاً وعبّر عن الروح الّتي خصّها بالمؤمنين بمثل قوله: (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) المجادلة: 22، فأتى بالباء الدالّة على السببيّة وسمّاه تأييداً وتقوية، وعبّر عن الروح الّتي خصّها بالأنبياء بمثل قوله: (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) البقرة: 87، فأضاف الروح إلى القدس وهو النزاهة والطهارة وسمّاه أيضاً تأييداً.

وبانضمام هذه الآيات إلى مثل آية سورة القدر يظهر أنّ نسبة الروح المضافة الّتي في هذه الآيات إلى الروح المطلقة المذكورة في سورة القدر نسبة الإفاضة إلى المفيض والظلّ إلى ذي الظلّ بإذن الله.

 

وكذلك الروح المتعلّقة بالملائكة من إفاضات الروح بإذن الله، وإنّما لم يعبّر في روح الملك بالنفخ والتأييد كالإنسان بل سمّاه روحاً كما في قوله تعالى: (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا)، وقوله: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ) النحل: 102، وقوله: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) الشعراء: 193، لأنّ الملائكة أرواح محضة على اختلاف مراتبهم في القرب والبعد من ربّهم، وما يتراءى من الأجسام لهم تمثّلات كما يشير إليه قوله تعالى: (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) مريم: 17

وكما أوجب اختلاف الروح في خلق الملك والإنسان اختلاف التعبير بالنفخ وعدمه كذلك اختلاف الروح من حيث أثرها وهو الحياة شرفاً وخسّة، أوجب اختلاف التعبير بالنفخ والتأييد وعدّ الروح ذات مراتب مختلفة باختلاف أثر الحياة.

فمن الروح الروح المنفوخة في الإنسان قال: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي).

 

ومن الروح الروح المؤيّد بها المؤمن قال: (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) المجادلة: 22، وهي أشرف وجوداً وأعلى مرتبة وأقوى أثراً من الروح الإنسانيّة العامّة كما يفيده قوله تعالى وهو في معنى هذه الآية: (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) الأنعام: 122، فقد عدّ المؤمن حيّاً ذا نور يمشي به وهو أثر الروح والكافر ميتاً وهو ذو روح منفوخة فللمؤمن روح ليست للكافر ذات أثر ليس فيه.

ومن ذلك يظهر أنّ من مراتب الروح ما هو في النبات لما فيه من أثر الحياة يدلّ على ذلك الآيات المتضمّنة لإحياء الأرض بعد موتها.

ومن الروح الروح المؤيّد بها الأنبياء قال: (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) البقرة: 87، وسياق الآيات يدلّ على كون هذه الروح أشرف وأعلى مرتبة من غيرها ممّا في الإنسان.

 

وأمّا قوله: (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) غافر: 15، وقوله: (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) الشورى: 52، فيقبل الانطباق على روح الإيمان وعلى روح القدس والله أعلم.

قوله تعالى: (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ) إشارة إلى يوم الفصل .... وهو في الحقيقة خاتمة الكلام المنعطفة إلى فاتحة السورة وما بعده أعني قوله: (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ مَآباً) إلخ...  

والإشارة إليه بالإشارة البعيدة للدلالة على فخامة أمره والمراد بكونه حقّاً ثبوته حتماً مقضيّاً لا يتخلّف عن الوقوع.

 

قوله تعالى: (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ مَآباً) أي مرجعاً إلى ربّه ينال به ثواب المتّقين وينجو به من عذاب الطاغين، والجملة كما أشرنا إليه تفريع على ما تقدّم من الإخبار بيوم الفصل والاحتجاج عليه ووصفه، والمعنى إذا كان كذلك فمن شاء الرجوع إلى ربّه فليرجع.

قوله تعالى: (إنّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) إلخ المراد به عذاب الآخرة، وكونه قريباً لكونه حقّاً لا ريب في إتيانه وكلّ ما هو آت قريب.

على أنّ الأعمال الّتي سيجزي بها الإنسان هي معه أقرب ما يكون منه.

 

وقوله: (يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) أي ينتظر المرء جزاء أعماله الّتي قدّمتها يداه بالاكتساب، وقيل: المعنى ينظر المرء إلى ما قدّمت يداه من الأعمال لحضورها عنده قال تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) آل عمران: 30.

وقوله: (يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) أي يتمنّى من شدّة اليوم أن لو كان تراباً فاقداً للشعور والإرادة فلم يعمل ولم يجز.

 

 

 

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد