تختلف الميول الإنسانية من شخص إلى آخر، فالبعض يحب المال والبعض الآخر يحب الجمال وآخر يحب الكمال، وآخر يطلب المقام والجاه، أي يطلب الوجاهة، فيجب أن يحترمه الناس وينحنون له، ويريد أن يشيروا إليه بالبنان ويطلبوا منه حوائجهم، وبعبارة أدق يحس بأنّه أرفع شأناً من الباقين، له الكلام الأول والأخير وإن كان أقل فهماً ودرايةً، ويسمى مثل هذا الشخص بالراغب للوصول لأعلى المراتب أو محب الجاه.
هذه الصفة تتوفر في الكبار أكثر منها لدى الشباب والصغار، وفي بعض الأحيان ترافق الإنسان حتى الممات، فتتلاشى كل قواه إلّا حبّ الجاه فهو راسخ في القلب بل يزداد رسوخاً وقوّة كلما امتد العمر في الإنسان.
هذه الرذيلة هي مصدر لكثير من المفاسد والفردية، فهي تبعد الإنسان عن الخَلق والخالق، ولأجل الوصول لأهدافه المشؤومة تقحمه في المهالك، والأنكى من ذلك أنّها تظهر في الغالب بصورة حسنة مثل الإحساس بالمسؤولية والعزم على أداء الواجبات الاجتماعية ولزوم الإرادة الصحيحة وما شابه ذلك، فقد جاء في الحديث: «آخرُ ما يَخرُجُ مِنْ قُلوبِ الصِّدِّيقِينَ حُبُّ الجاهِ».
ويبين هذا الحديث خطورة هذهِ الرذيلة الأخلاقية.
والجدير بالذكر أنّ هذه الصفة لها صلة وثيقة مع الرياء والتكبر والعُجب وغالباً ما يُشتبه بينها وبين مثيلاتها.
وبهذه الإشارة نعود لنستوحي ما ورد عن عللها وعواقبها في القرآن الكريم:
1 ـ في حادثة السامري التي جاءت في سورة طه في الآيات 85 و 88 و 95 و 96 تبين أنّ حبّ الجاه هو السبب في ضلال السامري وجمع غفير معه من بني إسرائيل حيث قال:
(قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ ... فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ...
قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ ـ قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)(1).
2 ـ (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)(2).
(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً)(3).
3 ـ (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ* أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ)(4).
4 ـ (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي ... فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)(5).
5 ـ (قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ)(6).
6 ـ (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ)(7).
(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(8).
ذم طُلاب الجاه
كما أشرنا سابقاً أنّ حبّ الجاه يعني التعلق الشديد بالمكانة والمنزلة الاجتماعية والسعي لنيلها بأي صورة كانت، وهو من الرذائل الخطيرة التي لا تؤثر على الجوانب الروحية للإنسان فحسب بل تجعل الشخص منبوذاً اجتماعياً، ويعيش العزلة القاتلة.
ولقد رأينا على مدى تاريخ الأنبياء عليهم السلام والأقوام السالفة، كم كانت هذه الرذيلة منتشرة ومتفشية فيهم، بحيث تحدث عنها القرآن الكريم في أكثر من آية وسورة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ كثيراً من الرذائل لها مفاهيم مشتركة، وكما يقول المثل وجهان لسكة واحدةٍ، بحيث يمكن أن يصدر فعل قبيح من الإنسان يكون مصداقاً لعدّة صفات رذيلة، وقد نزلت في مثل ذلك آيات من القرآن الكريم تعكس هذا المعنى لبعض الرذائل كالتكبر والغرور والأنانية والعجب والرياء وحب الجاه.
وعلى أية حال، نرى في الآيات الأولى قصة السامري المعروفة لدى الجميع، فللسامري سمعة قبيحة عند بني إسرائيل، وكان محبّاً للجاه بشكل غريب، حيث استغل غياب النبي موسى عليه السلام وذهابه للقاء ربّه في طور سيناء، فصنع من حلّي بني إسرائيل عجلاً جسداً له خوار، فعندما كانوا يضعونه في اتجاه الهواء تصدر منه أصواتاً غريبة، أو يقال أنّه جمع مقداراً من التراب الذي كان تحت أقدام جبرائيل عليه السلام أو مركبه الذي ظهر به عندما أغرق فرعون وجنوده في اليم، فوضع ذلك التراب داخل العجل الذهبي، والصوت الذي كان يصدر منه من بركة ذلك التراب. وبعدها دعا السامري الناس لعبادة ذلك العجل ولم يمرّ وقت طويل حتى استجاب له بعضهم وعبدوا العجل وسجدوا له.
وقال الله تعالى في القرآن الكريم: (قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ).
فرجع موسى غضبان أسفاً إلى قومه وعاتب أخاه هارون عتاباً شديداً، وتبرأ القوم من فعلهم واتهموا السامري فقال سبحانه وتعالى: (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ ...).
وتوجه بعدها موسى عليه السلام إلى السامري: (قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ ـ قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي).
كان هدف السامري من تلك الفتنة المضلّة هو الوصول إلى الجاه والمنصب والمقام، فعاقبه الباري تعالى بالطرد من المجتمع والانزواء (قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ).
فكان في الشريعة الموسوية وقوانينها الجنائية، أنّ الإنسان، إذا ما أذنب ذنباً كبيراً، ينظر إليه وكأنّه رجس خبيث نجس فلا يحق أن يمسّه أحد ولا يمس هو أحداً.
ويقال: إن السامري ابتلي بمرض نفسي ووسواس شديد بحيث كان يخاف من جميع الناس وإذا ما تقرب إليه أحد يصيح ويقول «لا مساس»، نعم فهذا هو جزاء من يحب الجاه ويتلاعب بالدين لأجل أغراضه الدنيوية.
وتتطرق الآيات القرآنية في «الآية الثانية» إلى نوع آخر من حبّ الجاه والمقام لبني إسرائيل، فقد طلبوا أمراً عجيباً من موسى عليه السلام، فقالوا: «أرنا الله جهرةً» وإلّا لن نؤمن لك أبداً، فأخذتهم الصاعقة، ولولا لطف الباري تعالى لماتوا إلى الأبد، وفيها قال تعالى في قرآنه الكريم:
(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
ولكن ما هي الصاعقة؟
إنّها رعد وبرق ينتج نتيجة اصطدام الغيوم ببعضها، فهي تحمل الكهربائية الموجبة وعند وصولها للأرض تبحث عن الكهربائية السالبة فتتحد معها بدرجة حرارة تصل إلى 15000 مئوية فتحدث صوتاً مهيباً وإذا ما أصابت مكاناً ما فستدمره تدميراً كاملاً.
في قصة بني إسرائيل عندما وقعت الصاعقة على بني إسرائيل وتجلّى الباري للجبل وجعله دكّاً مات جميع من اختارهم موسى عليه السلام من بني إسرائيل وعددهم (70) نفراً من شدة الخوف والهلع الذي أصابهم، وبقي موسى على قيد الحياة ولكنه غاب عن الوعي وعندما أفاق، طلب من الباري تعالى العفو والمغفرة ودعا لهم بالحياة فاستجاب الباري دعاءه وأحياهم وعلم هؤلاء القوم المعاندين إلى أنّهم ليسوا بشيء أمام قدرة الباري تعالى.
أشار القرآن الكريم إلى هذهِ الحادثة في مكان آخر وآية أخرَى فقال:
(يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ).
فيمكن أن يكون ذلك الطلب من التذرع أو من حبّ الجاه أو من الاثنين معاً ، ويستمر القرآن الكريم ويقول قد سألوا أكبر من ذلك (9) (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ).
فهذه التعبيرات وما شابهها تبيّن مدى تغلغل حبّ الجاه والكبر والغرور والعناد في قلوب بني إسرائيل، ولذلك كانوا دائماً يتذرعون ويتحججون في كل وقت، وهي نفس الصفات الرذيلة التي نراها عند اليهود في وقتنا الحاضر، ولحد الآن يعتبرون أنفسهم شعب الله المختار، ويفكرون في السيطرة على اقتصاد العالم، مع عدم قدرتهم وكفاءتهم على ذلك.
ولم يكن حبّ الجاه متغلغلاً في قلوب بني إسرائيل فحسب، فالفراعنة ونمرود كانوا أيضاً من مصاديق ذلك، فنقرأ في القسم الثالث من الآيات، أنّ الباري تعالى قال عن فرعون: (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ* أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ).
وقد جمع فرعون في هذه الآية عدّة رذائل، الغرور، التكبر، حبّ الجاه وإغفال البُسطاء من الناس، والغريب في الأمر أنّ فرعون شاهد معجزات النبي موسى عليه السلام بعينه ولكنه أصرّ واستكبر وتمسك بمسألة الطبقة الاجتماعية والأسورة من الذهب، ولثغة موسى عليه السلام في الكلام (بالرغم من أن اللثغة قد زالت منه بعد البعثة بعدما طلب موسى ذلك من الله تعالى).
وعلى أيّة حال فإن فرعون لم يزد قومه إلّا ضلالاً.
وفي «الآية الرابعة» من هذه الآيات نواجه قصة «قارون» فهو من النماذج البارزة للأشخاص الذين يعيشون حبّ الجاه عند بني إسرائيل، وهي الصفة القبيحة التي أودت بحياته وأرسلته إلى الحضيض.
فيا للعجب من الغرور وحبّ الجاه كيف يضع الحجب على بصيرة وفهم الإنسان ويمنعه من درك أكثر الأمور بداهةً، فعندما وعظه بعض بني إسرائيل وقالوا له: بما أنّ الله قد أنعم عليك فابتغ فيما آتاك الله من النعم الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا، فكل شيء آيلٌ إلى الزوال وإيّاك أن تستعمل هذه الأموال للإفساد في الأرض ومحاربة الرسول عليه السلام.
فقال ذلك الرجل المغرور في جوابه: (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي ...) قال ذلك واستمر في عناده وجموحه، ولأجل أن يرضي غريزة حبّ الجاه عنده، خرج على قومه بزينة من الخيل والخدّام وكثرة الغلمان الذين كانوا يجلسون على سرجٍ من ذهب ويلبسون أنواع الحُلي الذهبية.
وقد أخذ مثل ذلك المنظر البرّاق والمخادع بقلوب وعقول بني إسرائيل فقالوا: (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).
ولكن وكما صرّح القرآن الكريم في هذه الآيات فإنّ الله تعالى خسف بقارون الأرض ودفنت كل أمواله وقصوره والزينة التي كانت عليه وكأن شيئاً لم يكن، لا قارون ولا أمواله ولا زينته المبهرة للعقول!!
وعندها انتبه الذين تمنوا مقام قارون، انتبهوا من غفلتهم ورجعوا عن قولهم واستعاذوا بالله تعالى من أقوالهم. نعم فإنّ حبّ الجاه والغفلة والغرور، تغوي الإنسان وتورثه الغفلة عن أبسط الأمور البديهية للحياة، وبما أنّ الإنسان خلق ضعيفاً، فإنّ أوهى عنوان أو أمتياز يعرض عليه يغير حياته ويقلبها رأساً على عقب ويفضي به إلى الهلكة لأنّه سرعان ما يدعي القدرة والاستقلال، بل يتعداها إلى مقام الألوهية.
وفي «الآية الخامسة» من الآيات تتحدث عن فرعون، وتصوّر لنا حبّ الجاه وأعماله الجنونية حيث خاطب موسى عليه السلام قائلاً: (قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) بلا شك، أنّ فرعون بادعائه للربوبية لم يكن من السذاجة بدرجة لا يدرك فيها دعوة موسى عليه السلام المنطلقة من التعريف بالله ربّ العالمين، فهو الحاكم على أرض مصر الوسيعة.
وبديهي أن الأنانية والتكبر وحبّه للجاه، لم تكن لتسمح له بقبول الحق والمنطق السليم الصادر من الله تعالى على لسان نبيه موسى عليه السلام.
وهذا هو طريق الطغاة وأفعالهم فدائماً ما يقابلون الحق بالقوّة، والدليل والبرهان بالسجن!
ولكن عقوبة السجن في مثل هذه المواد لم تكن أداة رادعة في دائرة التصدي لخط الرسالة والنبوة بقيادة موسى عليه السلام الذي ضعضع أركان حكومة فرعون، ولهذا ذكر بعض المفسرين أنّ سجن فرعون لم يكن بالسجن الذي يخرج منه الإنسان حيّاً، فالمسجون فيه يلاقي شتى أنواع العذاب حتى يموت فيه.
ويدور الحديث في «الآية السادسة» من هذهِ الآيات، عن مشركي العرب فبدلاً من أن يطلبوا الدليل والبرهان والمعجزة من الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله كانوا يتذرعون بأنواع الذرائع من موقع الإنكار والجحود، فتارة يطلبون منه تفجير الينابيع والعيون من الصحاري المقفرة اليابسة والحارة من أرض الحجاز، وتارة يطلبون جنات من أعناب ونخيل تجري من تحتها الأنهار، وتارة يطلبون إنزال الحجارة من السماء وأخرى حضور الباري تعالى والملائكة والبيوت من الذهب؟ وبعدها يقولون:
(أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ).
فأولئك بطلباتهم تلك، قد كشفوا عن واقعهم الزائف حيث يعيشون منتهى الكبر وحبّ الجاه الذي ملأ قلوبهم، وأثبتوا أنّ الإنسان عندما يقع في سلوكه الأخلاقي والفكري تحت تأثير تلك الصفات الذميمة، فسوف يتحرك بعيداً عن العقل والمنطق.
اختلف المفسرون بأن ما المراد من كلمة (بيت من زخرفٍ)؟
فاحتملوا فيها أمرين: الأول أنّ المراد من الكلمة هو بيت مليء بالذهب أو أشياء مصنوعة من الذهب، والثاني : أنّ المراد هو بيت منقوش بالزخارف الذهبية، ولكن التفسير الأول أوفق لسياق الآية وذلك بالنظر إلى عبارة (من زخرفٍ).
في «الآية السابعة» والأخيرة من هذهِ الآيات التي وردت عقيب الحديث عن قارون، صدر أمر إلهي عام فقال:
(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
نعم فإن عاقبة محبّي الجاه والمستكبرين، نفس عاقبة قارون الذي باع كل شيء من أجل حبّه للجاه والمقام وعاش مغضوباً عليه، وختم حياته باللعن الإلهي إلى الأبد.
ويمكن الاستفادة من عطف الفساد على العلو في الأرض في الآية أنّ المتكبرين ومحبّي الجاه والمقام سيفسدون في الأرض في نهاية المطاف كي يشبعوا عطشهم وغرائزهم، ولن يتوقفوا عند أي جناية يرتكبونها.
ومن الجدير بالذكر أنّ الإمام علي عليه السلام عندما آلت إليه الخلافة كان يخرج بنفسه إلى السوق، فيرشد الضّال ويساعد الضعيف وعند مروره بجانب الباعة والكسبة كان يقرأ عليهم هذهِ الآية: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه عندما تلا هذه الآية بكى وقال: «ذَهَبَتِ واللهِ الأَمانيُّ عِندَ هذهِ الآيةِ» (10).
ويمكن أن يكون مراد الإمام عليه السلام أنّه بما أنّ الباري تعالى جعل الآخرة للّذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا يريدون الرئاسة، وهو أمر صعب جدّاً، فسوف لا تبقى أمنية للشخص المؤمن في حركة الحياة الدنيوية.
ويستفاد من مجموع الآيات التي ذكرت سابقاً وما شابهها من الآيات أن طلب الجاه والرئاسة، وخصوصاً إذا ما اقترن بالكبر والغرور والعناد فانّه سيفضي بالحياة الإنسانية إلى السقوط، وسوف لا تؤثر على الفرد فقط بل تطال المجتمع ايضاً.
_________________
1 ـ سورة طه ، الآيات 85 و 88 و 95 و 96.
2 ـ سورة البقرة ، الآية 55.
3 ـ سورة الفرقان ، الآية 21.
4 ـ سورة الزخرف ، الآية 51 و 52.
5 ـ سورة القصص ، الآية 78 و 79.
6 ـ سورة الشعراء ، الآية 29.
7 ـ سورة الإسراء ، الآية 93.
8 ـ سورة القصص ، الآية 83.
9 ـ سورة النساء ، الآية 153.
10 ـ تفسير علي بن إبراهيم الوارد في ذيل الآية الآنفة الذكر.
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
التمثيل بالمحقَّرات في القرآن
الشّيخ صالح آل إبراهيم: ميثاقنا الزّوجي
اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا
المادة على ضوء الفيزياء
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (أبيض وأسود) بنسخته الثّالثة
القرآن وجاذبيّته العامة
القرآن الكريم وأمراض الوراثة
اعتبار الإسلام لرابطة الفرد والمجتمع
لا يدرك الخير إلّا بالجدّ
الوصول إلى حالة الانغماس وقياس مستواها