قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطبطبائي
عن الكاتب :
مفسر للقرآن،علامة، فيلسوف عارف، مفكر عظيم

كلام في أنّ الكذب لا يفلح (1)

من المجرّب أنّ الكذب لا يدوم على اعتباره وأنّ الكاذب لا يلبث دون أن يأتي بما يكذّبه أو يظهر ما يكشف القناع عن بطلان ما أخبر به أو ادّعاه، والوجه فيه أنّ الكون يجري على نظام يرتبط به بعض أجزائه ببعض بنسب وإضافات غير متغيّرة ولا متبدّلة فلكلّ حادث من الحوادث الخارجيّة الواقعة لوازم وملزومات متناسبة لا ينفكّ بعضها من بعض، ولها جميعًا فيما بينها أحكام وآثار يتّصل بعضها ببعض، ولو اختلّ واحد منها لاختلّ الجميع وسلامة الواحد تدلّ على سلامة السلسلة. وهذا قانون كلّيّ غير قابل لورود الاستثناء عليه.

فلو انتقل مثلاً جسم من مكان إلى مكان آخر في زمان كان من لوازمه أن يفارق المكان الأوّل ويبتعد منه ويغيب عنه وعن كلّ ما يلازمه ويتّصل به ويخلو عنه المكان الأوّل ويشغل به الثاني وأن يقطع ما بينهما من الفصل إلى غير ذلك من اللوازم، ولو اختلّ واحد منها كأن يكون في الزمان المفروض شاغلاً للمكان الأوّل اختلّت جميع اللوازم المحتفّة به.

 

وليس في وسع الإنسان ولا أيّ سبب مفروض إذا ستر شيئاً من الحقائق الكونيّة بنوع من التلبيس أن يستر جميع اللوازمات والملزومات المرتبطة به أو أن يخرجها عن محالّها الواقعيّة أو يحرّفها عن مجراها الكونيّة فإن ألقى سترًا على واحدة منها ظهرت الأخرى وإلّا فالثالثة وهكذا.

ومن هنا كانت الدولة للحقّ وإن كانت للباطل جولة، وكانت القيمة للصدق وإن تعلّقت الرغبة أحيانًا بالكذب قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) الزمر: 3. وقال: (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) المؤمن: 28. وقال: (إِنَّ الّذينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) النحل: 116. وقال: (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) ق: 5. وذلك أنّهم لـمّا عدّوا الحقّ كذبًا بنوا على الباطل واعتمدوا عليه في حياتهم فوقعوا في نظام مختلّ يناقض بعض أجزائه بعضًا ويدفع طرف منه طرفًا.

 

قوله تعالى: (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى‏ ما تَصِفُونَ) هذا جواب يعقوب وقد فوجئ بنعي ابنه وحبيبه يوسف، دخلوا عليه وليس معهم يوسف وهم يبكون يخبرونه أنّ يوسف قد أكله الذئب وهذا قميصه الملطّخ بالدم، وقد كان يعلم بمبلغ حسدهم له وهم قد انتزعوه من يده بإلحاح وإصرار وجاؤوا بقميصه وعليه دم كذب ينادي بكذبهم فيما قالوه وأخبروا به.

فأضرب عن قولهم: (إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) إلخ بقوله: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا) والتسويل الوسوسة أي ليس الأمر على ما تخبرون بل وسوست لكم أنفسكم فيه أمرًا، وأبهم الأمر ولم يعيّنه ثمّ أخبر أنّه صابر في ذلك من غير أن يؤاخذهم وينتقم منهم لنفسه انتقامًا وإنّما يكظم ما هجم نفسه كظمًا.

 

فقوله: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا) تكذيب لما أخبروا به من أمر يوسف وبيان أنّه على علم من أنّ فقد يوسف لا يستند إلى ما ذكروه من افتراس السبع و إنّما يستند إلى مكر مكروه و تسويل من أنفسهم لهم، و الكلام بمنزلة التوطئة لما ذكره بعد من قوله: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) إلى آخر الآية.

وقوله: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) مدح للصبر وهو من قبيل وضع السبب موضع المسبّب والتقدير: سأصبر على ما أصابني فإنّ الصبر جميل وتنكير الصبر وحذف صفته وإبهامها للإشارة إلى فخامة أمره وعظم شأنه أو مرارة طعمه وصعوبة تحمّله.

 

وقد فرّع قوله: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) على ما تقدّم للإشعار بأنّ الأسباب الّتي أحاطت به وأفرغت عليه هذه المصيبة هي بحيث لا يسمع له معها إلّا أن يسلك سبيل الصبر، وذلك أنّه (عليه السلام) فقد أحبّ الناس إليه يوسف وهو ذا يذكر له أنّه صار أكلة للذئب وهذا قميصه ملطخًا بالدم وهو يرى أنّهم كاذبون فيما يخبرونه به، ويرى أنّ لهم صنعًا في افتقاده  مكرًا في أمره ولا طريق له إلى التحقيق فيما جرى على يوسف والتجسّس ممّا آل إليه أمره وأين هو؟ وما حاله؟ فإنّما أعوانه على أمثال هذه النوائب وأعضاده لدفع ما يقصده من المكاره إنّما هم أبناؤه وهم عصبة أولوا قوّة وشدّة فإذا كانوا هم الأسباب لنزول النائبة ووقوع المصيبة فبمن يقع فيهم؟ وبماذا يدفعهم عن نفسه؟ فلا يسعه إلّا الصبر.

غير أنّ الصبر ليس هو أن يتحمّل الإنسان ما حملّه من الرزيّة  ينقاد لمن يقصده بالسوء انقيادًا مطلقًا كالأرض الميتة الّتي تطؤها الأقدام وتلعب بها الأيدي فإنّ الله سبحانه طبع الإنسان على دفع المكروه عن نفسه وجهّزه بما يقدم به على النوائب والرزايا ما استطاع، ولا فضيلة في إبطال هذه الغريزة الإلهيّة بل الصبر هو الاستقامة في القلب وحفظ النظام النفساني الّذي به يستقيم أمر الحياة الإنسانيّة من الاختلال، وضبط الجمعيّة الداخليّة من التفرّق والتلاشي ونسيان التدبير واختباط الفكر وفساد الرأي فالصابرون هم القائمون في النوائب على ساق لا تزيلهم هجمات المكاره، وغيرهم المنهزمون عند أوّل هجمة ثمّ لا يلوون على شي‏ء.

 

ومن هنا يعلم أنّ الصبر نعم السبيل على مقاومة النائبة وكسر سورتها، إلّا أنّه ليس تمام السبب في إعادة العافية وإرجاع السلامة فهو كالحصن يتحصّن به الإنسان لدفع العدوّ المهاجم،  أمّا عود نعمة الأمن والسلامة وحرّيّة الحياة فربّما احتاج إلى سبب آخر يجرّ إليه الفوز والظفر، وهذا السبب في ملّة التوحيد هو الله عزّ سلطانه فعلى الإنسان الموحّد إذا نابته نائبة ونزلت عليه مصيبة أن يتحصّن أوّلاً بالصبر حتّى لا يختلّ ما في داخله من النظام العبوديّ ولا يتلاشى معسكر قواه ومشاعره ثمّ يتوكّل على ربّه الّذي هو فوق كلّ سبب راجيًا أن يدفع عنه الشرّ ويوجّه أمره إلى غاية صلاح حاله، والله سبحانه غالب على أمره...

ولهذا كلّه لـمّا قال يعقوب (عليه السلام) (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) عقّبه بقوله: (وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى‏ ما تَصِفُونَ) فتمّم كلمة الصبر بكلمة التوكّل نظير ما أتى به في قوله في الآيات المستقبلة: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) الآية 83 من السورة.

 

فقوله: (وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى‏ ما تَصِفُونَ) - وهو من أعجب الكلام - بيان لتوكّله على ربّه يقول: إنّي أعلم أنّ لكم في الأمر مكرًا وأنّ يوسف لم يأكله ذئب لكنّي لا أركن في كشف كذبكم والحصول على يوسف بالأسباب الظاهرة الّتي لا تغني طائلاً بغير إذن من الله ولا أتشحّط بينها بل أضبط استقامة نفسي بالصبر وأوكّل ربّي أن يظهر على ما تصفون أنّ يوسف قد قضى نحبه و صار أكلة لذئب.

فظهر أنّ قوله: (وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى‏ ما تَصِفُونَ) دعاء في موقف التوكّل ومعناه: اللّهمّ إنّي توكّلت عليك في أمري هذا فكن عونًا لي على ما يصفه بنيّ هؤلاء،  الكلمة مبنيّة على توحيد الفعل فإنّها مسوقة سوق الحصر ومعناها أنّ الله سبحانه هو المستعان لا مستعان لي غيره فإنّه (عليه السلام) كان يرى أن لا حكم حقًّا إلّا حكم الله كما قال فيما سيأتي من كلامه: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ)، ولتكميل هذا التوحيد بما هو أعلى منه لم يذكر نفسه فلم يقل: سأصبر ولم يقل: والله أستعين على ما تصفون بل ترك نفسه وذكر اسم ربّه وأنّ الأمر منوط بحكمه الحقّ وهو من كمال توحيده وهو مستغرق في وجده وأسفه وحزنه ليوسف غير أنّه ما كان يحبّ يوسف ولا يتولّه فيه ولا يجد لفقده إلّا لله وفي الله.

 

قوله تعالى: (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى‏ دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى‏ هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) قال الراغب: الورود أصله قصد الماء ثمّ يستعمل في غيره. انتهى، وقال: دلوت الدلو إذا أرسلتها، وأدليتها إذا أخرجتها. انتهى، وقيل بالعكس، وقال: الإسرار خلاف الإعلان. انتهى.

وقوله: (قالَ يا بُشْرى‏ هذا غُلامٌ) إيراده بالفصل مع أنّه متفرّع وقوعًا على إدلاء الدلو للدلالة على أنّه كان أمرًا غير مترقّب الوقوع فإنّ الّذي يترقّب وقوعه عن الإدلاء هو خروج الماء دون الحصول على غلام فكان مفاجئًا لهم ولذا قال: (قالَ يا بُشْرى‏) ونداء البشرى كنداء الأسف والويل ونظائرهما للدلالة على حضوره وجلاء ظهوره.

 

وقوله: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) مفاده ذمّ عملهم والإبانة عن كونه معصية محفوظة عليهم سيؤاخذون بها، ويمكن أن يكون المراد به أنّ ذلك إنّما كان بعلم من الله أراد بذلك أن يبلغ يوسف مبلغه الّذي قدّر له فإنّه لو لم يخرج من الجبّ ولم يسرّ بضاعة لم يدخل بيت العزيز بمصر فلم يؤت ما أوتيه من الملك والعزّة.

ومعنى الآية: وجاءت جماعة مارّة إلى هناك فأرسلوا من يطلب لهم الماء فأرسل دلوه في الجبّ ثمّ لـمّا أخرجها فاجأهم بقوله: يا بشرى هذا غلام - وقد تعلّق يوسف بالحبل فخرج - فأخفوه بضاعة يقصد بها البيع والتجارة والحال أنّ الله سبحانه عليم بما يعملون يؤاخذهم عليه أو أنّ ذلك كان بعلمه تعالى وكان يسيّر يوسف هذا المسير ليستقرّ في مستقرّ العزّة والملك والنبوّة.

 

قوله تعالى: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) الثمن البخس هو الناقص عن حقّ القيمة، ودراهم معدودة أي قليلة والوجه فيه - على ما قيل - أنّهم كانوا إذا كثرت الدراهم أو الدنانير وزنوها ولا يعدّون إلّا القليلة منها والمراد بالدراهم النقود الفضّيّة الدائرة بينهم يومئذ، والشراء هو البيع، والزهد هو الرغبة عن الشي‏ء أو هو كناية عن الاتّقاء.

والظاهر من السياق أنّ ضميري الجمع في قوله: (وَشَرَوْهُ) (وَكانُوا) للسيّارة والمعنى أنّ السيّارة الّذين أخرجوه من الجبّ وأسرّوه بضاعة باعوه بثمن بخس ناقص وهي دراهم معدودة قليلة وكانوا يتّقون أن يظهر حقيقة الحال فينتزع هو من أيديهم. ومعظم المفسّرين على أنّ الضميرين لإخوة يوسف والمعنى أنّهم باعوا يوسف من السيّارة بعد أن ادّعوا أنّه غلام لهم سقط في البئر وهم إنّما حضروا هناك لإخراجه من الجبّ فباعوه من السيّارة وكانوا يتّقون ظهور الحال.

أو أنّ أوّل الضميرين للإخوة والثاني للسيّارة والمعنى أنّ الإخوة باعوه بثمن بخس دراهم معدودة وكانت السيّارة من الراغبين عنه يظهرون من أنفسهم الزهد والرغبة لئلّا يعلو قيمته أو يرغبون عن اشترائه حقيقة لما يحدسون أنّ الأمر لا يخلو من مكر وأنّ الغلام ليس فيه سيماء العبيد.

 

وسياق الآيات لا يساعد على شي‏ء من الوجهين فضمائر الجمع في الآية السابقة للسيّارة ولم يقع للإخوة بعد ذلك ذكر صريح حتّى يعود ضمير (وَ شَرَوْهُ) و (كانُوا) أو أحدهما إليهم على أنّ ظاهر قوله في الآية التالية: (وَقالَ الّذي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ) أنّه اشتراه متحقّق بهذا الشراء.

وأمّا ما ورد في الروايات (أنّ إخوة يوسف حضروا هناك وأخذوا يوسف منهم بدعوى أنّه عبدهم سقط في البئر ثمّ باعوه منهم بثمن بخس) فلا يدفع ظاهر السياق في الآيات ولا أنّه يدفع الروايات.

وربّما قيل: إنّ الشراء في الآية بمعنى الاشتراء وهو مسموع وهو نظير الاحتمالين السابقين مدفوع بالسياق.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد