قرآنيات

ذِكرُ الله، حينَ البَأس

الشيخ حسين كوراني

 

﴿يا أيُّها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون - وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين - ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط﴾ الأنفال:45-47.

 

إنَّها سِماتُ المعسكر الإسلامي، وما يمتاز به عن معسكر الكُفر والضّلال.

لِكُلٍّ من المعسكرَين، ثقافتُه، والـمُمارَسات الـمُنسجِمة معها.

يخاطبك الله تعالى، أيُّها العزيز، مبيِّناً لك في هذه الآيات منهاجاً عَمَليّاً في ساحة المعركة، لن تقوى على الالتزام به إلَّا إذا كنتَ حريصاً عليه خارج المعركة، دائباً على الدّورات التدريبيّة التي تجعلك من أهل ذكر الله، الـمُطيعين له، الصّابرين على ما أصابهم في السَّرّاء والضَّرّاء.

يريدك الله تعالى مميَّزاً عن أهل المعسكر المقابِل، إنَّهم يحبُّون الدُّنيا فلا تحبّها أنت. بَطِرون مُتْرَفون، فاجْهَد أن تكون من أهل القناعة والرِّضا والكفاف. مُراؤون، فأَخْلِص لله القصد. يَصُدُّون عن سبيل الله، فلتَكُن نيَّتك بجهادك الدّعوة إلى سبيل الله وعبادته.

 

يريد منك الله عزَّ وجلَّ عند لقائك عدوّه:

 

* الثبات، حيت تزلّ الأقدامُ أو تكاد، وتزيغُ الأبصار وتبلغُ القلوبُ الحناجر، ويظنّ البعض بالله الظّنونا!

اثبت، تِد في الأرض قدمَك، أعِرِ الله جُمجمتَك. تزول الجبال وأنت لا تزول.

وبديهيٌّ أنّ هذا الثّبات في مثل هذا الظّرف اللَّاهب المتفجِّر يرتبط جذريّاً بجهادك الأكبر، قبل الـمُجتلَد وساحة المعركة.

بمقدار ما تعاهَدْتَ قلبَك بالرّعاية سيَثبتُ بك، بل ويَحملك على الإقدام والتوثُّب، لِتَنقضّ على أعداء الله، حبيبِك الذي يعمرُ قلبَك حبُّه عزَّ وجلَّ.

 

* والذِّكر: يريد منك الحبيب أن تذكره في هذه الشدّة، يأنس لك بأنّك وفيٌّ، تأنسُ به.

لم تَغلِب ظُلُمات الأنا نورَ التوحيد التي أشرقتْ به جَنَباتُ قلبك.

هل يقبل الحبيب العادي عذرَ حبيبِه إنْ قال له: شُغِلْتُ عن ذكرك لِمَا دهاني؟

إنَّ المحبَّ ذاكرٌ، لَهِجٌ، يَنسى نفسه ولا يَنسى الحبيب.

يا لِرَوعة ذكر المجاهد ربَّه حين البأس!

لا يُشترط أن يكون الذِّكر لسانيّاً، فالقلبُ مستودَع الأسرار، وذِكرُ القلب هو الذِّكر الحقيقي، بل هو الأنسبُ بالسرِّ بين الحبيبَين.

 

* كثرة الذِّكر: ﴿..إذا لقيتم فئة فاثبتوا، واذكروا الله كثيراً..﴾ الأنفال:45.

يريد منك الحبيب أن يكون ذكرُك لله كثيراً، لا لأنَّه يريد شيئاً لنفسه، بل لِيَذكرك كثيراً.

بمقدار ما تذكره يكون ذِكرُه لك، ولديه المزيد، فهو ذو الفضل العظيم.

ولكي تُدرِك أهميّة هذا الذِّكر، وندرك، فقد بيَّن عزَّ وجلَّ أنّه سبب الفلاح ﴿..لعلكم تفلحون﴾ الأنفال:45.

والفلاح مرتبط بتزكية النفس ﴿قد أفلح من زكّاها﴾ الشمس:9.

يمكنك أن تَستشرف من هذا، أنَّ محاولةً واحدةً منك لِذِكر الله تعالى في ساحة المعركة، ذات مردود كبير في مجال الجهاد الأكبر.

احرص أيَّها العزيز على الذِّكر خارجَ المعركة لِيُصبح الذِّكر مَلَكَة لك، تُمكِّنُك من التدرًّب على الذِّكر القلبي عند لقاء العدوّ، بل واللّساني حيث يمكن.

 

* الصبر: لاحِظ أنَّ الذِّكر في الآية الـمُنطلَق والـمَسار، ولاحِظ أنَّ الهدف الإخلاص ومجانبة الرّياء، لِتَعرف مِن هذا وذاك موقع الصبر من سلامة المـُنطلَق، وثبات القدم على الصِّراط، وضمانة الوصول إلى الهدف.

ليس الصّبر من الكماليّات، وبالتالي فليس حلْيَةً لحقيقة قائمة بذاتها، ولا زينةً للنّفس البشرية وحَسْب، بل هو القيمة التي تتفرَّع عنها كلّ القِيَم، وهو بعد عنوان وجود النّفس البشريّة، إذ أنّها بمعزل عنه حيوانيّة، وإنْ ذَهبَت في الإدِّعاء عريضاً!

من هنا كان الصَّوم صبراً، والصَّلاة صبراً، واقترنت الطّاعة بالصَّبر عليها، والمعصية بالصَّبر عنها، لِيَتَّضح في النتائج أنَّ الصّبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فلا إيمان لِمَن لا صبر له، ويتَّضح أيضاً أنَّ تَميُّز الـمُجاهد على القاعِد إنَّما هو بِخَزين هذا الصّبر الذي هو مُرُّ الصّبر، وتجلّيَّاته الصّراح.

*مجانبة الرِّياء: وكما توضح الآيات أنَّ الذِّكر هو الطريق إلى الصّبر، توضح كذلك أنَّ تراكُم الصّبر يؤهِّل لِنُموِّ غرسة الإخلاص، فهو مناخها والرَّيّ، بل الصّبرُ الإخلاص، والإخلاصُ الصّبر، كما هو الثمن المثمّن والعكس، إلَّا أنَّ الحقيقة الواحدة تظهر في كلِّ عالمٍ بمظهرها المتناسِب معه. رأسمال الإخلاص الصّبر، فلا سبيل إلى مجانبة الرّياء والتحلِّي بمكرمة هذا الخُلُق المحمَّدي: الإخلاص، إلَّا الصبر. والـمُنطلَق: ﴿..واذكروا الله كثيراً..﴾ الأنفال:45.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد