قرآنيات

القرآن الكريم كتاب دعوة وإصلاح

الإمام الخميني "قدّس سرّه"

 

جاء القرآن الكريم الذي يترأس جميع الكتب بما فيها سائر الكتب الإلهيّة الأخرى ليجعل من الإنسان إنساناً بالفعل؛ لأنَّ التالي للقرآن يتجلّى له أنّ جميع ما فيه هو من قِبل الله تعالى فحسب، وأيّ شيء يُطرح في القرآن الكريم فإنّه يُطرح بجانبه الإلهي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنّ كتاب الله العزيز لم يسعَ لشيء آخر كسعيه لتهذيب الناس، ونستطيع القول: إنّ القرآن قد جاء لهذه الغاية؛ لأنّ الناس يحتاجون إلى هذا الأمر أكثر من أيّ شيء آخر.

إنَّ القرآن الكريم كتاب لديه طرق ودعوات لصنع الإنسان في جميع المراحل التي يطويها؛ لأنّه كتاب دعوة وإصلاح مجتمع، لذا على الإنسان أن يستخرج المقصود والنتيجة الإنسانيّة التي هي الوصول إلى السلام المطلق وعالم النور والطريق المستقيم، وعليه أيضاً أن يطلب من القرآن الكريم سبل السلامة ومعدن النور المطلق والطريق المستقيم.

وبما أنّ قارئ القرآن الكريم قد أدرك الغاية، وأصبح تحصيله واضحاً، وشُرعت له سبل الاستفادة من القرآن الشريف، وفُتحت له أبواب رحمة الحقّ، فلا يصرف عمره العزيز والقصير وثمرة حياته في الأمور غير الرساليّة، وليتجنّب فضول البحث والكلام في هكذا أمر مهم.

 

مطابقة القرآن مع حال النفس ومعالجة الأمراض به

إنّ أحد الآداب المهمّة لقراءة القرآن التي يحصل بها الإنسان على نتائج واستفادات لا تحصى هي المطابقة، أي أنّه في أيّ آية من الآيات الشريفة التي يتفكّر فيها يستطيع أن يطابق مفادها على نفسه ويزيل نقصه ويعالج أمراضه بها.

فليتفكّر مثلاً في قصّة النبي آدم (ع) الشريفة، ولير ما الذي كان سبب طرد الشيطان من حضرة القُدس على الرغم من سجداته وعباداته الطويلة، وليطهّر نفسه منها؛ لأنّ مقام القرب الإلهي هو محلّ الأطهار، ولا يمكن أن تطأ قدمه هذه الحضرة بالأوصاف والأخلاق الشيطانيّة.

وممّا يستفاد من الآيات الشريفة أنّ مبدأ عدم سجود إبليس هو العجب والكبر الذي قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [سورة ص/ 76]. وهذا الكبر أصبح من أسباب الأنانيّة و(بيع النفس)، أي الاستكبار، وهذا التفرّد بالرأي أدّى إلى الاستقلال وعصيان الأوامر وإلى الطرد والنفي.

 

إنّنا نلعن الشيطان منذ بداية عمرنا في حال أنّنا قد نتّصف بأوصافه الخبيثة، ولم نفكّر في سبب طرده من حضرة القُدس. ولنتفكّر أيضاً في هذه القصّة الشريفة وسبب أفضليّة آدم (ع) على ملائكة الله تعالى، ولنتّصف بها حسب مقدورنا، وسنرى أنّ سببها تعلّمه للأسماء، وكما يقول تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [سورة البقرة/ 31]، فالمرتبة العالية من تعليم الأسماء التحقّق بمقام أسماء الله تعالى، كما أنّ المرتبة العالية من إحصاء الأسماء التحقّق بحقيقتها التي تجعل الإنسان ينال بها الجنّة، كما جاء في الرواية الشريفة (إنّ لله تسعاً وتسعين اسماً مَن أحصاها دخل الجنّة).

إنّ الإنسان يستطيع أن يصبح بالارتياضات القلبيّة مظهر أسماء الله أو الآية الإلهيّة الكبرى، ولقد جاء في الحديث القريب من هذا المعنى أنّ اتصال روح المؤمن بالله (عزّ وجلّ) أقوى من اتصال شعاع الشمس بها أو بنورها، ولقد ورد في الحديث الصحيح أنّه (لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وعينه التي يبصر فيها، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش فيها).

 

وباختصار: إنّ الذي يريد أن يكون له النصيب الأوفر والكافي من القرآن الكريم عليه أن يطابق كلاً من الآيات الشريفة مع حالات نفسه ليستفيد منها كاملاً. فمثلاً تقول الآية الشريفة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [سورة الأنفال/ 2]، فعلى الشخص السالك أن يرى هل تنطبق هذه الصفات الثلاث على نفسه؟ وحينما يستمع لذكر الله تعالى فهل يزيد نور الإيمان في قلبه ويصبح اعتماده وتوكّله على الله (عزّ وجلّ) أو أنّه في كلٍّ من هذه المراتب لا يملك شيئاً، ويكون محروماً من كلّ هذه الخواص؟ وإن كان يريد أن يعلم إن كان يخشى الحقّ وقلبه يخفق من خشية الله فلينظر إلى أعمال نفسه؛ فإنّ الإنسان الخائف لن يتجرّأ في محضر (الكبرياء) على مقامه المقدّس، ولن يهتك الحرمات الإلهيّة في حضور حضرة الحقّ تعالى، فإذا تقوّى الإيمان بالآيات الإلهيّة فإنّ نور الإيمان سيسري إلى مملكته الظاهرة، والإنسان النورانيّ هو الذي تكون جميع قواه الـمُلكيّة والملكوتيّة تبعث النور، إضافة إلى أنّها تهديه إلى السعادة والطريق المستقيم، وهي تضيء للآخرين وتهديهم إلى طريق الإنسانيّة.

 

والذي يعتمد على الله (عزّ وجلّ) ويتوكّل عليه فإنّه سيقطع يد الطمع عند الآخرين، وسيلقي مجمل احتياجه في حضرة الغنيّ المطلق، وسيعرف أنّ الحلّ ليس عند الآخرين الفقراء مثله؛ فإنّ وظيفة السالك إلى الله تعالى أن يعرض نفسه على القرآن الشريف. وكما أنّ الميزان في تشخيص صحّته وعدم صحّته، واعتبار أو عدم اعتبار الحديث أن يعرضوه على كتاب الله ويعدّون ما يخالفه باطلاً وهراءً، فالميزان في الاستقامة والاعوجاج والشقاء والسعادة هو ما يكون مستقيماً وصحيحاً في ميزان كتاب الله تعالى.

وكذلك يجب أن تتطابق جميع المعارف وأحوال القلوب وأعمال النفس الظاهرة والباطنة مع كتاب الله (عزّ وجلّ)، وأن تعرض عليه لتتحقّق بحقيقة القرآن، ويصبح القرآن صورتها الباطنيّة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد