إنّ جميع علماء الإسلام يذكرون اللَّه تعالى بصفات «السميع» و«البصير»، وذلك لتكرر ذكر هذه الصفات - كما نعلم - في القرآن الكريم. ولكنهم اختلفوا في تأويلهما.
اعتقد المحققون بأنّ كون اللَّه سميعاً وبصيراً بحيث لا تتعدى قدرة إحاطته وعلمه المسموعات والمرئيات، ولأنّ لهاتين الكلمتين مفهومين يستعملان للتعبير عن قوة سمعنا وبصرنا، فلذلك يتبادر إلى الذهن عضوا الأذن والعين، ولكن من البديهي أنّهما عندما تُستعملان لوصف الباري سبحانه وتعالى تتجّردان عن مفاهيم الآلات والأدوات والأعضاء الجسمانية، لأنّ ذاته المقدّسة أسمى وأجل من الجسم والجسمانيات.
وهذا ليس تعبيراً مجازياً طبعاً، وإن سمّيناه مجازياً فهو مجازي ما فوق الحقيقة، لأنّه يعلم ويحيط بالمسموعات والمبصرات وهي ماثلة بين يديه تعالى بحيث يسبق ويفوق كل سمع وبصر، لذا فقد ورد وصفه تعالى في الأدعية بأسمع السامعين وأبصر الناظرين.
لكن جماعة من قدماء المتكلمين اعتقدوا بأنّ صفتي السميع والبصير، تختلفان عن صفة «العلم»، وهؤلاء لابدّ لهم من الاعتقاد بأنّ صفتي السميع والبصير من الصفات الزائدة على ذات اللَّه، وهذا يعني الإقرار بتعدد الصفات الأزليّة، وهو نوع من الشرك، وإلّا فكون اللَّه سميعاً بصيراً لا يمكن أن يكون سوى علمه بالمسموعات والمرئيات.
السميع والبصير الواردة في نهج البلاغة والروايات
بحثت الروايات الإسلامية هذه الصفات الإلهيّة بشكل عميق ودقيق، ونتطرق هنا إلى ذكر نموذجٍ منها.
في خطبه لأمير المؤمنين علي عليه السلام قال: «كُلُّ سَميعٍ غَيرَهُ يَصَمُّ عَنْ لَطيفِ الأَصواتِ، وَيُصِمُّهُ كَبِيرُها، وَيَذهَبُ عَنْهُ ما بَعُدَ مِنْها، وَكُلُّ بصَيرٍ غَيْرَهُ يَعْمَى عَنْ خَفِيِّ الأَلْوانِ وَلَطيفِ الْأجسامِ» «1».
وفي مكان آخر قال عليه السلام: «والسَّمْيعِ لا بأداةٍ، والْبَصيرِ لا بِتَفْريقِ آلَةٍ» «2». وفي خطبة آخرى قال: «فاعِلٌ لا بَمعَنى الْحَركاتِ والآلَة، بَصيرٌ إذْ لا مَنْظُورَ إليْهِ مِنْ خَلْقهِ» «3». وورد عن الإمام الصادق عليه السلام عندما سأله زنديق عن اللَّه عزّ وجلّ كيف أنّه سميع بصيرٌ قال: «هوَ سميعٌ بصيرٌ، سَمِيعٌ بَغَيرِ جارِحَةٍ، وَبَصيرٌ بغَيْرِ آلةٍ، بل يسمع بنفسه ويبصر بنفسهِ...» «4».
في البحار عن الإمام الصادق عليه السلام عن أحد أصحابه قال له: إنّ رجلًا ينتحل موالاتَكم أهل البيت يقول: إنّ اللَّه تبارك وتعالى لم يزل سميعاً بسمع، وبصيراً ببصر، وعليماً بعلم، وقادراً بقدرة. قال: فغضب عليه السلام ثم قال: «من قال ذلك ودان به فهو مشرك، وليس من ولايتنا على شيء، إنّ اللَّه تبارك وتعالى ذاتٌ علّامةٌ سميعةٌ بصيرةٌ قادرةٌ» «5».
الأثر التربوي للإيمان بكون اللَّه سميعاً بصيراً
إنّ تأكيد القرآن على وصف الباري تعالى بهاتين الصفتين له آثار تربوية مهمّة، فهو يرفع الوعي لدى المسلمين للوصول إلى معرفة اللَّه من جهة، ومن جهة أخرى يدعوهم جميعاً إلى التخلق بهذا الخلق الكريم والتشبه بهاتين الصفتين الإلهيتين، ومن جهة ثالثة يلقي في قلوب المؤمنين السكينة من حيث كون يد العناية والحماية الإلهيّة معهم في كل حال، ومن جهة رابعة تحذير للمؤمنين ليراقبوا أقوالهم وأعمالهم لأنّ اللَّه محيط بها علماً.
وقد أكّدت الروايات الإسلامية الشريفة أيضاً على هذه المسألة التربوية المهمة ومن جمله هذه الروايات: ورد عن الإمام الصادق عليه السلام حديث يعظ به أحد خواصه وهو (إسحاق بن عمار) قال عليه السلام: «يا إسحاق خَفِ اللَّه كأنّكَ تَراهُ وَانْ كُنْتَ لا تَراهُ فَانَّهُ يَراكَ، فإن كُنتَ تَرَى أَنَّهُ لا يَراكَ فَقَدْ كَفَرْتَ وإنِ كُنْتَ تَعُلَمُ أَنَهُ يَراكَ ثم برزْت له بالْمَعصِيَةِ فَقَدْ جَعَلْتَهُ مِنْ أَهْوَنِ النَاظِرينَ عَلَيْكَ» «6».
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير الآية: «وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبّهِ جَنّتانِ» قال: «مَنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ يَراهُ وَيَسْمَعُ ما يَقُوْلُ وَيَعْلَمُ ما يَعْمَلُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، فَيَحْجُزُهُ ذلِكَ عَنِ الْقَبيحِ مِنَ الْأَعمالِ، فَذلِكَ الَّذي خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى» «7».
وكذلك ما ورد في تفسير (علي بن إبراهيم) عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «لما هَمّت به وهَمّ بها قامت إلى صنم في بيتها فألقت عليه ملاءة لها فقال لها يوسف: ما تعملين؟ قالت: ألقي على هذا الصنم ثوباً لا يرانا فإني أستحي منه. فقال يوسف: فأنت تستحين من صنم لا يسمع ولا يبصر ولا أستحي أنا من ربّي؟» «8».
ورد في تفسير روح البيان في ذيل الآية «وَأفَوِّضُ أمْرِى إلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ». (غافر / 44) خرج بعض الأصحاب (رضي اللَّه عنهم) إلى الصحراء فطبخوا الطعام، فلما تهيأوا للأكل رأوا هنالك راعياً يرعى أغناماً فدعوه إلى الطعام، فقال الراعي: كلوا أنتم فإنّي صائم. فقالوا له على سبيل الاختبار: كيف تصوم في مثل هذا اليوم الشديد الحرارة؟ فقال لهم: إنّ نار جهنم أشد حرّاً منه، فأعجبهم كلامه فقالوا له: بع لنا غنماً من هذه الأغنام نعطك ثمنه مع حصة من لحمه، فقال لهم: هذه الأغنام ليست لي وإنّما هي لسيدي ومالكي، فكيف أبيع لكم مال الغير؟ فقالوا له: قل لسيدك إنّه أكله الذئب أو ضاع: فقال: أين اللَّه!؟ فأعجبهم كلامه زيادة الإعجاب، ثم لما عادوا إلى المدينة اشتراه ابن مسعود من مالكه مع الأغنام فأعتقه، ووهب الأغنام له، وكان ابن مسعود يقول له في بعض الأحيان بطريقة الملاطفة: أين اللَّه «9».
وهنالك نماذج كثيرة من هذا القبيل، منقولة في التأريخ والروايات الإسلامية، تدلّ على الأثر التربوي البليغ النابع من الإيمان بعلم اللَّه وبتواجده في كل مكان، وبكونه سميعاً وبصيراً، في الحجز عن المعاصي والذنوب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نهج البلاغة ، الخطبة 65.
(2) المصدر السابق ، الخطبة 152.
(3) المصدر السابق ، الخطبة 1.
(4) أصول الكافي ، ج 1 ، ص 83 ، ح 1.
(5) بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 62 عن أمالي الصدوق وكذلك التوحيد.
(6) أصول الكافي ، ج 2 ، ص 67 ، ح 2.
(7) أصول الكافي ، ج 2 ، ص 7 ، ح 10 ذيل الحديث يفيد أنّ الإمام قال هذا الكلام في تفسير الآية «وأمّا من خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى».
(8) تفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 422.
(9) تفسير روح البيان ، ج 8 ، ص 188.
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ محمد مصباح يزدي
الشيخ محمد جواد البلاغي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
السيد عبد الأعلى السبزواري
محمود حيدر
السيد عباس نور الدين
عدنان الحاجي
الشيخ علي رضا بناهيان
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الحب في اللّه
العرفان الإسلامي
جمعية العطاء تختتم مشروعها (إشارة وتواصل) بعد 9 أسابيع
الرؤية القرآنية عن الحرب في ضوء النظام التكويني (2)
قول الإماميّة بعدم النّقيصة في القرآن
معنى كون اللَّه سميعًا بصيرًا
الصابئة، بحث تاريخي عقائدي
الاستقامة والارتقاء الروحي
إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا
ماهية الميتايزيقا البَعدية وهويتها*