من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطبطبائي
عن الكاتب :
مفسر للقرآن،علامة، فيلسوف عارف، مفكر عظيم

هكذا سارت قريش إلى حتفها في «بدر»

السيد محمد حسين الطباطبائي

رُوي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، لمّا نظر – يوم بدر - إلى كثرة عدد المشركين وقلّة عدد المسلمين، استقبل القبلة وقال: «اللّهمّ انجِزْ لي ما وعدْتَني، اللّهمّ إنْ تَهْلِكْ هذه العصابَةُ لا تُعْبَدْ في الأرضِ». فما زال يهتف ربّه مادّاً يديه حتى سقط رداؤه من منكبيه، فأنزل الله: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ الأنفال:9... وهو المرويّ عن أبي جعفر الباقر عليه السلام.

قال ابن عبّاس: «ولمّا أَمسى رسولُ الله وجَنَّهُ الليلُ، أَلقى اللهُ على أصحابِهِ النّعاسَ وكانوا قد نَزلوا في مَوضعٍ كثير الرّملِ لا تَثبتُ فيه قدَمٌ، فأَنزلَ اللهُ عليهِم المطرَ رذاذاً حتّى لبّد الأرض وثبّت أقدامهم، وكان المَطرُ على قُريش مثل العزالي [كصبّ القرب، إشارة إلى شدة وقع المطر]، وأَلقى اللهُ في قُلوبِهم الرُّعبَ، كما قال الله تعالى: ﴿..سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ..﴾». (الأنفال:12)

وفي تفسير (البرهان) عن ابن شهرآشوب: «قال النبيّ صلىّ الله عليه وآله وسلّم في العريش: اللّهمّ إنّكَ إنْ تهلِكْ هذه العِصابَة اليوم، لا تُعبَدْ بعدَ هذا اليوم، فنزل: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ..﴾. فخرج يقول: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ (القمر:45)، فأيّده الله بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين، وكثّرهم في أعين المشركين، وقلّل المشركين في أعينهم فنزل: ﴿..وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى..﴾، من الوادي خلف العقنقل... و﴿أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا..﴾ عند القليب...».

وقال أصحاب السِّيَر: أقبل أبو سفيان بِعِير قريش من الشام وفيها أموالهم وهي اللطيمة (الإبل التي تحمل العطر)، وفيها أربعون راكباً من قريش، فندب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، أصحابه للخروج إليها ليأخذوها، وقال: لعلّ الله أنْ يُنفِلكُمُوها، فانتدب الناس فخفّ بعضهم وثقل بعضهم، ولم يظنّوا أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، يلقى كيداً ولا حرباً، فخرجوا لا يريدون إلّا أبا سفيان، والركب لا يرونها إلّا غنيمة لهم.

فلمّا سمع أبو سفيان بمسير النبيّ صلّى الله عليه وآله، استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكّة، وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم - ويخبرهم أنّ محمّداً قد تعرّض لِعِيرهم في أصحابه، فخرج ضمضم سريعاً إلى مكّة.

وكانت عاتكة بنت عبد المطلب رأت فيما يرى النائم، قبل مقدم ضمضم بن عمرو بثلاث ليالٍ، أنّ رجلاً أقبل على بعيرٍ له ينادي: يا آل غالب، اغدوا إلى مصارعكم، ثمّ وافى بجَمله على «أبي قبيس»، فأخذ حجراً فدَهْدَهَهُ من الجبل، فما ترك داراً من دُور قريش إلّا أصابته منه فلذة، فانتبهت فزعةً من ذلك وأخبرت العباسَ بذلك، فأخبر العباس عتبة بن ربيعة، فقال عتبة: هذه مصيبةٌ تحدث في قريش، وفشتِ الرؤيا فيهم، وبلغ ذلك أبا جهل، فقال: هذه نبيّة ثانية في بني عبد المطلب! واللات والعزّى لننظرنّ ثلاثة أيام، فإنْ كان ما رأت حقّاً، وإلّا لنكتبنّ كتاباً بيننا: أنّه ما من أهل بيتٍ من العرب أكذب رجالاً ونساءً من بني هاشم!

فلمّا كان اليوم الثالث، أتاهم ضمضم يناديهم بأعلى الصوت: يا آل غالب يا آل غالب. اللطيمة اللطيمة. العِير العِير. أدرِكوا وما أراكُم تُدركون، إنّ محمّداً والصباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرّضون لعِيركم فتهيّأوا للخروج، وما بقي أحدٌ من عظماء قريش إلّا أخرج مالاً لتجهيز الجيش، وقالوا: مَن لم يخرج نهدم داره، وأخرجوا معهم القيان يضربنَ الدفوف».

وفي حديث أبي حمزة: «بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أيضاً عيناً له على العير اسمه عديّ، فلمّا قدم على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأخبره أين فارقَ العِير، نزلَ جبرئيلُ على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأخبره بنفير المشركين من مكّة، فاستشار أصحابه في طَلَب العِير وحرب النفير، فقام أبو بكر فقال: يا رسول الله، إنّها قريش وخيلاؤها، ما آمنتْ منذ كفرت، ولا ذلّت منذ عزّت، ولم نخرج على هيئه الحرب... فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: اجلسْ، فجلس.

ثمّ قام عمر بن الخطاب، فقال مثل ذلك، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: اجلسْ، فجلس.

ثمّ قام المقداد، فقال: يا رسولَ الله، إنّها قريش وخيلاؤها، وقد آمنّا بك وصدّقنا وشهدنا أنّ ما جئتَ به حقّ، والله لو أمرتنا أن نخوض جمرَ الغضا وشوكَ الهراس لَخضناه معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ﴿..فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ (المائدة:24)، ولكنّا نقول: اِمضِ لأمرِ ربِّك فإنّا معك مقاتلون.

فجزاه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خيراً على قوله ذاك.

ثمّ قال: أشيروا عليّ أيّها الناس، وإنّما يريد الأنصار لأنّ أكثر الناس منهم... فقام سعد بن معاذ، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، كأنّك أردتَنا.

فقال: نعم.

قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إنّا قد آمنّا بك وصدّقناك وشهدنا أنّ ما جئتَ به حقٌّ من عند الله فمُرنا بما شئت، وخُذ من أموالنا ما شئت، واترُك منها ما شئتَ، واللهِ لو أمرتَنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك، ولعلّ الله عزّ وجلّ أنْ يُريَك مناّ ما تقرّ به عينُك، فَسِرْ بنا على بركة الله.

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: سِيروا على بركةِ الله، فإنّ اللهَ عزَّ وجلَّ قد وَعدَني إحدى الطائفتَين ولنْ يُخلِفَ اللهُ وعدَه، واللهِ لكأنّي أنظرُ إلى مَصرعِ أبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وفلان وفلان».

قال الطبرسي: «فلمّا نظرت قريش إلى قلّة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال أبو جهل: ما هم إلّا أكلةُ رأسٍ، لو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذاً باليد.

فقال عتبة بن ربيعة: أترى لهم كميناً أو مدداً؟

فبعثوا عمير بن وهب الجمحي وكان فارساً شجاعاً، فجال بفرسه حتّى طاف على عسكر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثمّ رجع فقال: ليس لهم كمينٌ ولا مدد، ولكن نواضحُ يثرب قد حملت الموتَ الناقع، أما ترونهم خُرساً لا يتكلّمون، ويتلمّظون تلمُّظَ الأفاعي، ما لهم ملجأ إلّا سيوفُهم، وما أراهم يولّون حتّى يُقتلوا، ولا يُقتلون حتى يَقتلوا بعددهم، فارتأوا رأيكم.

فقال له أبو جهل: كذبتَ وجبنتَ.

فأنزل الله تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا..﴾ (الأنفال:61)، فبعث إليهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: يا معشرَ قُريش، إنّي أكرهُ أنْ أبدأَ بكُم، فخلّوني والعرب وارجعوا.

فقال عتبة: ما ردّ هذا قومٌ قطّ فأفلحوا، ثمّ ركب جملاً له أحمر، فنظر إليه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو يجول بين العسكرَين وينهى عن القتال، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنْ يَكُ عندَ أَحدٍ خيرٌ فعندَ صاحبِ الجمل الأحمر، وإنْ يُطيعوه يرشدوا.

وخطب عتبة فقال في خطبته: يا معشرَ قريش، أطيعوني اليومَ واعصوني الدّهرَ، إنّ محمّداً له إل وذمّة، وهو ابن عمّكم، فخلّوه والعرب، فإنْ يكُ صادقاً فأنتُم أعلى عيناً به، وإنْ يكُ كاذباً كَفَتكُم ذؤبانُ العرب أمرَه.

فغاظ أبا جهلٍ قولُه، وقال له: جَبُنتَ وانتَفخ سحرُك.

فقال: يا مصفر (كذا) مثلي يَجبن؟ وستعلم قريش أيّنا ألأم وأجبن، وأيّنا المفسد لقومه؟

ولبس درعه وتقدّم هو وأخوه شيبة وابنه الوليد، وقال: يا محمّد أخرِج إلينا أكْفاءَنا.. (الخبر).

قال اليعقوبي في (تاريخه): وكانت وقعة بدر يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان، بعد مقدَمه صلّى الله عليه وآله وسلّم - يعنى إلى المدينة - بثمانية عشر شهراً.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد