الشيخ محمد صنقور ..
المسألة:
هل كان جابرُ بن عبد الله الأنصاري مكفوفَ البصر حين زيارتِه لقبر الحسين (ع)؟ وإذا كان مكفوفاً فكيف نُوفِّق بين ذلك وبين ما ورد أنَّه التقى بالإمام الباقر (ع) ورأى شمائلَه وبلَّغه سلامَ النبيِّ الكريم (ص)؟
الجواب:
لم يكن جابرُ بن عبد الله الأنصاري كفيفًا حينَ زيارتِه لقبر الحسين (ع) ولا بعدها وإنَّما كُفَّ بصرُه في آخر عمرِه والذي امتدَّ إلى سنةِ أربعٍ وسبعين أو ثمان وسبعين للهجرة، فهو قد بقيَ بعد مقتلِ الحسين (ع) ثلاثة عشر سنة على أقلِّ تقدير أو سبعة عشر سنةٍ على أكثرِه. عن عمرٍ بلغ أربعاً وتسعين سنة وقيل سبعاً وتسعين سنة(1).
وإدراكُه للإمام الباقر (ع) والتقاؤه به ورؤيتُه لشمائله وتبلغُيه لسلامِ الرسول (ص) أمرٌ ثابتٌ نصَّت عليه رواياتٌ مستفيضةٌ وصريحةٌ في أنَّه كان حينذاك بصيرًا :
فمن ذلك ما رواه الشيخُ الصدوق في الأمالى بسندٍ صحيح قال: حدَّثنا محمد بن الحسن (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا عبد الله بن جعفر الحميري، قال: حدَّثنا يعقوب بن يزيد، قال: حدَّثنا محمد بن أبي عمير، عن أبان بن عثمان، عن الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام)، قال: إنَّ رسولَ الله (صلى الله عليه وآله) قال ذاتَ يومٍ لجابر بن عبد الله الأنصاري: يا جابر، إنَّك ستبقى حتى تلقى ولدي محمد بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب، المعروف في التوراة بالباقر، فإذا لقيتَه فأقرئه مني السلام.
فدخل جابر إلى عليّ بن الحسين (عليهما السلام) فوجد محمدَ بن عليٍّ (عليهما السلام) عنده غلامًا، فقال له، يا غلام، أقبِلْ. فأقبَلَ، ثم قال له: أدبِرْ. فأدبَر، فقال جابر: شمائلُ رسولِ الله وربِّ الكعبة، ثم أقبل على عليِّ بن الحسين (عليهما السلام) فقال له، مَن هذا ؟
قال: هذا ابني، وصاحبُ الأمر بعدي محمد الباقر. فقام جابرُ فوقع على قدميه يُقبِّلهما، ويقول: نفسي لنفسك الفداء يابنَ رسول الله، اقبَلْ سلامَ أبيك، إنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقرأُ عليك السلام. قال: فدمعتْ عينا أبي جعفر (عليه السلام)، ثم قال: يا جابر، على أبي رسولِ الله (صلَّى الله عليه وآله) السلام ما دامتِ السماواتُ والأرض، وعليك - يا جابر - بما بلَّغت السلام"(2).
فهذه الرواية الصحيحةُ صريحةٌ في أنَّ جابرًا الأنصاري كان بصيرًا حين التقائه بالامام الباقر (ع) فهو- بحسب الرواية- قد وجد عند الإمام السجَّاد (ع) غلامًا فأقبَل عليه وقال له أقبِل وأدبِر ليتحقَّق من شمائلِه ثم أقسَم بربِّ الكعبة إنَّ شمائلَه هي شمائلُ رسولِ الله (ص) وكيف يتسنَّى له التحقُّق من شمائلِ الباقر (ع) وما هي جدوى الأمر بالإقبال والإدبار لولا أنَّه كان بصيرًا .
وثمة روايةٌ أخرى قريبةُ المضمون من هذه الرواية أوردها الكلينيُّ في الكافي بسندٍ معتبر عن أبان بن تغلب عن أبي عبد الله الصادق (ع) ورد فيها: "... فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْه قَالَ: يَا غُلَامُ أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ ثُمَّ قَالَ: لَه أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ ثُمَّ قَالَ: شَمَائِلُ رَسُولِ الله (ص) والَّذِي نَفْسِي بِيَدِه، يَا غُلَامُ مَا اسْمُكَ قَالَ: اسْمِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ فَأَقْبَلَ عَلَيْه يُقَبِّلُ رَأْسَه ويَقُولُ بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي ، أَبُوكَ رَسُولُ الله (ص) يُقْرِئُكَ السَّلَامَ.."(3).
وهذه الرواية أصرح من التي سبقتها حيثُ اشتملت على قوله (ع): "فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْه قَالَ: يَا غُلَامُ أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ ثُمَّ قَالَ: لَه أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ" ثم أقسَم إنَّ شمائلَه شمائلُ رسولِ الله (ص).
وأورد الشيخُ الصدوق في كمال الدين روايةً أخرى مشتملةً على ما يقربُ من مضمون الروايتين السابقتين أوردهها بسنده عن جابر بن يزيد الجعفي (رحمه الله) ورد فيها: "... قال جابر بن يزيد: فدخل جابرُ بن عبد الله الأنصاري على عليِّ بن الحسين (عليهما السلام) فبينما هو يُحدِّثه إذ خرج محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) من عند نسائه وعلى رأسه ذؤابة وهو غلام، فلمَّا بصُر به جابر ارتعدتْ فرائصُه، وقامت كلُّ شعرةٍ على بدنه، ونظر إليه مليًّا، ثم قال له: يا غلام أقبِلْ فأقبَلْ، ثم قال له: أدبِرْ فأدبَرْ، فقال جابر: شمائلُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وربِّ الكعبة، ثم قام فدنا منه، فقال له: ما اسمُك يا غلام؟ فقال: محمد قال: ابنُ مَن؟ قال: ابنُ عليِّ بن الحسين، قال: يا بُني فدتْك نفسي فأنتَ إذن الباقر؟ فقال: نعم..."(4).
وهذه الرواية أصرح من الروايتين السابقتين حيث أفاد فيها جابرُ الجعفي أنَّ جابرًا الأنصاري بصُر بالباقر (ع) حين دخوله فارتعدتْ فرائصُ جابر وقامتْ كلُّ شعرةٍ على بدنه ثم قال: "ونظر إليه مليًّا" ثم أمره بالأقبال والإدبار ليتحقَّق من شمائله. ثم أقسم بربِّ الكعبة انَّ شمائلَه شمائلُ رسول الله (ص).
وممَّا يصلح للاستدلال به على أنَّ جابرًا الأنصاري لم يكن كفيفًا عند زيارته لقبر الحسين (ع) وأنَّه ظلَّ كذلك إلى وقتٍ متقدِّم من حياةِ الإمام الباقر (ع) ممَّا يصلح للاستدلال به على ذلك ما ورد في رواية اللوح المستفيضة والتي اشتملت على أسماء الأئمة الاثني عشر واحدًا بعد الآخر، ونذكر من طُرقها ما أورده الشيخ الكليني في الكافي بسندٍ معتبر عن أبي بصير عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (ع) قَالَ: قَالَ أَبِي لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله الأَنْصَارِيِّ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً فَمَتَى يَخِفُّ عَلَيْكَ أَنْ أَخْلُوَ بِكَ فَأَسْأَلَكَ عَنْهَا فَقَالَ لَه جَابِرٌ: أَيَّ الأَوْقَاتِ أَحْبَبْتَه فَخَلَا بِه فِي بَعْضِ الأَيَّامِ فَقَالَ لَه: يَا جَابِرُ أَخْبِرْنِي عَنِ اللَّوْحِ الَّذِي رَأَيْتَه فِي يَدِ أُمِّي فَاطِمَةَ (ع) بِنْتِ رَسُولِ اللَّه (ص) ومَا أَخْبَرَتْكَ بِه أُمِّي أَنَّه فِي ذَلِكَ اللَّوْحِ مَكْتُوبٌ فَقَالَ جَابِرٌ: أَشْهَدُ بِالله أَنِّي دَخَلْتُ عَلَى أُمِّكَ فَاطِمَةَ (ع) فِي حَيَاةِ رَسُولِ الله (ص) فَهَنَّيْتُهَا بِوِلَادَةِ الْحُسَيْنِ ورَأَيْتُ فِي يَدَيْهَا لَوْحًا أَخْضَرَ ظَنَنْتُ أَنَّه مِنْ زُمُرُّدٍ ورَأَيْتُ فِيه كِتَابًا أَبْيَضَ شِبْه لَوْنِ الشَّمْسِ فَقُلْتُ لَهَا بِأَبِي وأُمِّي يَا بِنْتَ رَسُولِ الله (ص) مَا هَذَا اللَّوْحُ فَقَالَتْ: هَذَا لَوْحٌ أَهْدَاه الله إِلَى رَسُولِه (ص) فِيه اسْمُ أَبِي واسْمُ بَعْلِي واسْمُ ابْنَيَّ واسْمُ الأَوْصِيَاءِ مِنْ وُلْدِي وأَعْطَانِيه أَبِي لِيُبَشِّرَنِي بِذَلِكَ قَالَ جَابِرٌ: فَأَعْطَتْنِيه أُمُّكَ فَاطِمَةُ (ع) فَقَرَأْتُه واسْتَنْسَخْتُه فَقَالَ لَه أَبِي: فَهَلْ لَكَ يَا جَابِرُ أَنْ تَعْرِضَه عَلَيَّ قَالَ: نَعَمْ فَمَشَى مَعَه أَبِي إِلَى مَنْزِلِ جَابِرٍ فَأَخْرَجَ صَحِيفَةً مِنْ رَقٍّ فَقَالَ يَا جَابِرُ: انْظُرْ فِي كِتَابِكَ لأَقْرَأَ أَنَا عَلَيْكَ فَنَظَرَ جَابِرٌ فِي نُسْخَةٍ فَقَرَأَه أَبِي فَمَا خَالَفَ حَرْفٌ حَرْفًا فَقَالَ جَابِرٌ: فَأَشْهَدُ بِالله أَنِّي هَكَذَا رَأَيْتُه فِي اللَّوْحِ مَكْتُوبًا...."
ثم أورد نصَّ الكتاب المشتمل على أسماء الأئمة (ع)، وموضعُ الشاهد من الرواية هو قولُ الإمام الباقر (ع) لجابرٍ الأنصاري: "انْظُرْ فِي كِتَابِكَ لأَقْرَأَ أَنَا عَلَيْكَ، فَنَظَرَ جَابِرٌ فِي نُسْخَةٍ فَقَرَأَه أَبِي فَمَا خَالَفَ حَرْفٌ حَرْفًا" فهو صريحٌ بأنَّ جابرًا (رحمه الله) كان حينها بصيرًا يتمكَّنُ من النظر فيما كَتَب.
وأورد هذه الرواية الشيخ الطوسي في الأمالي من طريقٍ آخر ورد فيه فقال له -الباقر (ع)-: فهل لك أن تُعارضني به؟ قال: نعم. فمضى جابرٌ إلى منزلِه وأتى بصحيفةٍ من كاغد فقال له: انظرْ في صحيفتِك حتى أقرأَها عليك، وكان في صحيفتِه مكتوب..."(5).
فجابرٌ - بحسب الرواية- كان ينظر في صحيفته -التي نسخها من اللوح الذي وجده عند فاطمة (ع)- والباقر (ع) يقرأُ عليه ليتثبَّت من مطابقةِ ما يقرأُ مع ما هو مكتوبٌ في صحيفةِ جابرٍ (رحمه الله).
وثمة طرقٌ ورواياتٌ أخرى يطولُ بعرضها المقام، والمقدارُ الذي أوردناه كافٍ للتثبُّت من أنَّ جابرًا الأنصاري لم يكن كفيفًا عند تشرُّفه بزيارة قبر الحسين (ع) بعد مَقتلِه وأنَّ ما هو متداولٌ لدى بعض الاخوة الخطباء من أنَّه كان حينها كفيفًا نشأ عن الغفلة والتقصيرِ في البحث.
وأما ما أوردَه محمَّد بن أبي القاسم الطبري في بشارة المصطفى ممَّا يُوهم أنَّ جابرًا الأنصاري كان حينذاك مكفوفَ البصر فهو ممَّا لا يصلحُ لمعارضة هذه الروايات التي تفوقُ طرقُها حدَّ الاستفاضة، على أنَّ ما أوردَه في كيفيَّة زيارة جابر (رحمه الله) ليس صريحًا بل ولا ظاهرًا في أنَّ جابرًا كان كفيفًا عند زيارته للقبر الشريف، فالعبارةُ التي قد يظهرُ منها بدْوًا أنَّ جابرًا كان حينها كفيفًا هي قوله لعطيَّة العوفي حين دنا من القبر الشريف: ألْمسْنِيه، فألمستُه، فخرَّ على القبر مغشيًا عليه.."(6).
فهذه الفقرة من النصِّ ظاهرةٌ بدوًا في أنَّ جابرًا كان كفيفًا إلا انَّه عند ملاحظة تمامِ النصِّ ينتفي هذا الظهور، فقد اشتمل النصُّ على أنَّ جابرًا بعد أنْ قرأ الزيارة وأبَّنَ الحسين (ع) قال: "وأشهدُ أنَّك مضيتَ على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريا. ثم جال ببصره حول القبر وقال: السلامُ عليكم أيُّتُها الأرواحُ التي حلَّت بفناءِ الحسينِ وأناخَتْ برحلِه.."(7).
فقولُه: "ثم جالَ ببصرِه حول القبر" صريحٌ في أنَّ جابرًا كان حينها بصيرًا، وذلك يقتضي عرفًا انتفاء ظهور فقرة "ألْمسنِيه فألمستُه" في العمى أي أنَّ فقرة: "فجالَ ببصره" نظرًا لصراحتها تسلبُ ظهورَ كلمة "ألْمسْنيه" في أنَّ جابرًا كان كفيفًا، ولذلك لا بدَّ من حملها على معنىً يستقيمُ مع قوله: "فجال ببصره" كأنْ يُقال إنَّ جابرًا ونظرًا لعدم تشخيصِه للقبر أو نظرًا لشيخوخته وضعف بصره أو لاستيلاءِ الحزنِ عليه بنحوٍ أفقده القدرةَ على تشخيص القبر، لذلك كلِّه أو بعضِه أو غيرِه طلب من عطيةَ العوفي أن يُلمسَه القبر.
والحمد لله ربِّ العالمين
1- سير أعلام النبلاء - الذهبي- ج3 ص 194، 192، الإصابة - ابن حجر - ج1 ص 547، الأبواب (رجال الطوسي) - الشيخ الطوسي - ص 31، الأخبار الطوال - ابن قتيبة الدينوري- ص 316.
2- الأمالي - الشيخ الصدوق - ص 435.
3- الكافي - الشيخ الكليني - ج1 ص470.
4- كمال الدين - الشيخ الصدوق - ص 353.
5- الأمالي - الشيخ الطوسي - ص 291.
6- بشارة المصطفى - محمَّد بن أبي القاسم الطبري - ص 125.
7- بشارة المصطفى - محمَّد بن أبي القاسم الطبري - ص 125
السيد عادل العلوي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
عدنان الحاجي
الأستاذ عبد الوهاب حسين
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
العسيّف يوقّع روايته الجديدة (مذكّرات أمل) في سيهات
السيد كامل الحسن: غياب الهدفية في حياة الإنسان
العلم الإلهامي برؤية جديدة
الشيخ عبد الجليل البن سعد: المجتمع الرّشيد
هل خلق آدم للجنّة أم للأرض؟
معنى (الدعاء الملحون)
اختلاف آراء الفلاسفة المادّيّين في حقيقة المادّة
كتاب الدّين والضّمير، تهافت وردّ
عوامل احتمال الإصابة بالسّكتة الدّماغيّة الحادّة
صراع الإسلام مع العلمانية