من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن الكاتب :
أحد مراجع التقليد الشيعة في إيران

سياسية الإمام السجاد(ع) في إحياء الثورة الحسينيّة (2)

 نشر الإسلام النبوي  

من الأساليب التي وظّفها الإمام علي بن الحسين (ع) في إحياء الثورة الحسينيّة، هو التأكيد على حقيقة الإسلام المحمدي الأصيل والتركيز على نشره وترويجه، من هنا يقول الإمام(عليه السلام) في خطبته بالشام: "وفضلنا بأن منّا النبي المختار، ومنّا الصديق الإمام علي(عليه السلام) ومنّا.. ومنّا ...".

 وبعد تعريف نفسه وبيان اتصاله بالشجرة الطيبة والسلالة الطاهرة لأهل البيت (عليهم السلام)، قال: "أَيُّهَا النّاسُ! أَنَا ابْنُ مَكَّةَ وَمِنى‏، أَنَا ابْنُ زَمْزَمَ وَالصَّفا... أَنَا ابْنُ مُحَمَّدٍ الْمُصْطفى‏، أَنَا ابْنُ عَلِيٍّ الْمُرْتَضى‏، أَنَا ابْنُ مَنْ ضَرَبَ خَراطِيمَ الْخَلْقِ حَتّى‏ قالُوا: لاإِلهَ إِلَّا اللَّهُ".

أجل فإن الإمام السجاد، ومن خلال هذه البيانات أراد إتمام الحجة على أهل الشام الذين قضوا ردحًا من الزمن مع الإسلام الأموي المزيّف، وكان (عليه السلام) يعلم أن رجلًا كان يدعىأامير للمؤمنين! هو معاوية، والآن يتأمّر خليفة آخر يدعى يزيد وهو ابن معاوية الخليفة الشارب للخمر واللاعب بالقمار مدّعيَا الإمامة والزعامة على المسلمين، حاسبًا نفسه وعائلته الفاسدة ممثلًا شرعيًّا للدين دون غيره من الناس، ويعدّ الامام الحسين وأسرته الطاهرة خارجة عن الدين والملة وأنهم متمردون على خليفة المسلمين.

 

 تعزيز العلقة السياسية للشعائر الإسلامية مع الثورة الحسينية

إن أبرز معالم التعاطي السياسي للإمام السجاد (عليه السلام) في الكوفة والشام، كان يرتكز على العلاقة الوثيقة بين الشعائر الإسلامية والطقوس الدينية والأهداف العظمى للإمام الحسين (عليه السلام) التي كان يرمي إليها من إشعال ثورة كربلاء الكبرى، من هنا فقد كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يواجه ممارسات يزيد المشينة، من خلال ربط تلك الأهداف بتلك الشعائر المقدسة، ومنها لـمّا أراد اللعين إسكات الإمام وهو يخطب على المنبر، وبذريعة دنو وقت الصلاة أمر يزيد المؤذن برفع الأذان وقطع على الإمام الكلام، إلا أنه عندما بلغ المؤذن أشهد أن محمدًا رسول الله، التفت الإمام من فوق المنبر إلى يزيد وقال: "محمد هذا جدك أم جدي؟ فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت وكفرت، وإن قلت إنه جدي فلم قتلت عترته".

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما قدم علي بن الحسين وقد قتل الحسين بن علي صلوات الله عليهم استقبله إبراهيم بن طلحة بن عبيدالله وقال: يا علي بن الحسين من غلب؟ وهو يغطي رأسه وهو في المحمل، قال: فقال له علي بن الحسين: إذا أردت أن تعلم من غلب ودخل وقت الصلاة فأذن ثم أقم (وهنا احكم من الذي بقي ومن الذي ذهب).

 

 مواجهة حملة بني أمية ضد شخص الإمام علي(ع)

تجدر الإشارة هنا إلى أنه من جملة الطرق المهمة التي ميّزت منهج الإمام زين العابدين السياسي في صيانة تعاليم الإمام الحسين (عليهما السلام) وبقاء ثورته العاشورائية، هو التعريف بفضائل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) واستعراض معالم شخصيته العظمية وبيان تضحيته وتفانيه في سبيل الدين والحق، الأمر الذي أبطل فيه مؤامرات العدو وأفسد من خلاله الشائعات التي كان يروّج لها بنو أمية طيلة عقود مضت، ومن هنا فقد قال في خطبته في مجلس يزيد في الشام: "أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله سيفين وطعن برمحين وهاجر الهجرتين وبايع البيعتين وقاتل ببدر وحنين ولم يكفر بالله طرفة عين، أنا ابن صالح المؤمنين ووارث النبيين وقامع الملحدين ويعسوب المسلمين ونور المجاهدين وزين العابدين وتاج البكائين وأصبر الصابرين وأفضل القائمين من آل ياسين رسول رب العالمين، أنا ابن المؤيد بجبرئيل، المنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين وقاتل المارقين والناكثين والقاسطين والمجاهد أعداءه الناصبين وأفخر من مشى من قريش أجمعين وأول من أجاب واستجاب لله ولرسوله من المؤمنين وأول السابقين وقاصم المعتدين ومبيد المشركين وسهم من مرامي الله على المنافقين ولسان حكمة العابدين وناصر دين الله وولي أمر الله وبستان حكمة الله وعيبة علمه، سمح سخي، بهي بهلول زكي، أبطحي رضي، مقدام همام، صابر صوام مهذب قوام، قاطع الأصلاب ومفرق الأحزاب، أربطهم عنانًا وأثبتهم جنانًا وأمضاهم عزيمة وأشدهم شكيمة، أسد باسل، يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنّة وقربت الأعنة طحن الرحى، ويذروهم فيها ذرو الريح الهشيم، ليث الحجاز وكبش العراق مكي مدني، خيفي عقبي، بدري أحدي، شجري مهاجري، من العرب سيدها، ومن الوغى ليثها، وارث المشعرين وأبو السبطين: الحسن والحسين، ذاك جدي علي بن أبي طالب".

ولا يخفى أنه (عليه السلام) بهذه الخطبة العصماء البليغة كان قد أشعل شرارة البداية لمقارعة الحكم الأموي حينما اهتزّ القصر اليزيدي واضطربت الأوضاع في الشام، فإن تلك الخطبة أيقظت أهل الشام من غفوتهم التي استمرت أربعين عامَا، وكانت بمثابة الصاعقة عليهم بعد العقود الأربعة التي كان يشيع فيها الشتم والسبّ لعلي(عليه السلام).

 

 سياسية الإمام(ع) الهجومية في ظل الانفعال اليزيدي

من الواضح أن الحرب الهجومية التي خاضها الإمام السجاد أمام محور الاستبداد والظلم المتمثلة بشخص يزيد وبلاطه، يمكن اعتبارها نموذجاً وقدوة رائعة في مواجهة المستكبرين والظلمة، من هنا نجد أن المناخ الاجتماعي في الشام معقل بني أمية التهب واستعر جرّاء خطبة الإمام ومقارعته ليزيد بلسان سليط وبلغة غاية في الروعة والجمال، ولذلك فقد كان يزيد ومن أجل أن يوهم الرأي العام ويمتص غضبه يُجلس الإمام في صدر مجلسه عندما يبدأ الناس بتناول الطعام.

على الرغم من أن ردّة الفعل هذه ليست صادقة، فهو لم يكن نادمًا بما يكفي على ما صنعه بأهل البيت (عليهم السلام)، بل بسبب المأزق السياسي الذي وقع فيه، وبدافع المصلحة في المحافظة على هدوء الرأي العام الذي انفجر واهتز لخطب الإمام السجاد والسيدة زينب عليهما السلام في الشام التي أثّرت كثيرَا في الشارع الشامي، لذلك يحكي لنا التاريخ أن يزيد لم يضيّق على أهل البيت بعد واقعة كربلاء ولم يلاحق شيعتهم بعد ذلك أيضًا؛ لأنه لو لم يفعل ذلك لانقلب الناس ضدّه وانتهى أمره بسرعة.

 

 بكاء الإمام السجاد (ع) السياسي على الإمام الحسين (ع)

وتجدر الإشارة هنا أيضًا إلى أن أحد الأساليب المؤثرة جدًّا في نشر وبثّ روح الثورة الحسينية هي البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) الذي وظّفه الإمام زين العابدين لذلك أيضًا، فقد كان الإمام السجاد وفي طول فترة إمامته، يعيش مأساة كربلاء ويستذكر أحداثها المرّة، وقد بكى على تلك المصيبة بكاء كثيرًا.

من هنا فقد كان الإمام (عليه السلام) يذرف الدموع على فراق أبيه، وينحب كثيرا لما إلمّ به، الأمر الذي يثير اللوعة والحسرة في قلوب الناس، وتشتعل نار الحب والولع لشهداء كربلاء، وتبلغ الرغبة ذروتها في الأخذ بثأرهم والسير على نهجهم.

 

كلمة أخيرة

وفي الختام ينبغي القول إن الجو العام المشحون بالفواجع العظيمة في كربلاء والمناخ السائد بالتسلط والظلم الأموي من جهة، وضغوط الأسر والإعياء الشديد جرّاء قطع مسافات طويلة من المشي والأجواء الحارة من جهة أخرى، مضافًا إلى الألم النفسي والتعب الروحي جراء استشهاد الحسين (عليه السلام) والثلّة الطاهرة التي جاهدت معه من جهة ثالثة، كل هذه الأمور من المفترض أن لا تترك للإمام زين العابدين القدرة على الحديث والبيان أو النطق بمحاورة عادية أو محادثة طبيعية، لكن ما الأمر الملفت في كل ذلك؟ أجل إنّه الثبات والصمود الذي أبداهما الإمام (عليه السلام) رغم كل تلك الظروف، والشجاعة التي ظهرت منه في مقاومة الطاغية يزيد التي تجلت في تلك الخطب البليغة والمؤثرة في مسجد الكوفة والشام، حتى تمكن عبر ذلك الكلام أن يقنع الجمهور بخطأ يزيد وفظاعة ما ارتكبه عبيد الله بن زياد في قتلهم الحسين (عليه السلام) وتجاوزهم على أهل بيت الرسالة، وبالتالي الانقلاب على الحكم الأموي، حصل كل ذلك بعد أن أعدّ يزيد مهرجانًا عظيمًا بمناسبة النصر، الذي تحول بسبب جهود الإمام إلى وبال عليه وعلى حكمه. 

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد