من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطبطبائي
عن الكاتب :
مفسر للقرآن،علامة، فيلسوف عارف، مفكر عظيم

العرفان وظهوره في الإسلام

الإنسان وإدراكه للعرفان‌

في الوقت الذي تسعى الأكثرية من الناس في أمور معاشهم، ورفع احتياجاتهم اليومية للحياة، غير مبالين بالمعنويات، فإن هناك غريزة في وجودهم، تدعى غريزة حبّ الذات، نراها تنمو عندهم، تجبرهم على إدراك مجموعة من القضايا المعنوية.

كل إنسان (على الرغم من أن السوفسطائيين والشكاكين يسمّون كل حقيقة وواقعية خرافة) يؤمن بواقعيات ثابتة، ونراه، ينظر بفطرته وضميره المنزّه إلى هذه الواقعيات الثابتة في الكون، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يشعر الإنسان بفناء أجزاء هذا العالم، فيرى العالم وظواهره كالمرآة التي تعكس الواقعيات‌ الثابتة الخلابة، وعند إحساس لذاتها، تصبح اللذائذ الأخرى حقيرة في نظره، وبالتالي تجعله ينصرف عن الحياة الفاتنة الفانية.

هذا هو مدى جاذبية العرفان، التي تسلك بالمؤمن إلى العالم العلوي، وتقرّ في قلبه عظمة الله وجلاله، فينسى كل شي‌ء، ويغفل عن كل شي‌ء، فتحرضه هذه الجاذبية على أن ينبذ كل ما يتمناه ويرجوه في هذه الحياة، وتدعوه إلى عبادة الله الذي لا يرى، وهو أوضح من كل ما يرى ويسمع.

وفي الحقيقة إن هذه الجاذبية الباطنية، هي التي قد أوجدت في الإنسان، سبل عبادة الله تعالى. والعارف هو الذي يعبد الله سبحانه عن حبّ وإخلاص، لا عن طلب للثواب ولا عن خوف ورهبة من العذاب. من هنا يتضح أن العرفان ليس مذهبًا في قبال المذاهب الأخرى، بل أن العرفان طريق من طرق العبادة (عبادة الحب والإخلاص، لا الخوف والرجاء) وهو طريق لإدراك وفهم حقائق الدين، في قبال طريق الظواهر الدينية وطريق التفكر العقلي.

 

ظهور العرفان في الإسلام‌

من بين صحابة النبي الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم‌ (وقد جاء ذكر ما يقارب من اثني عشر ألفًا منهم في كتب الرجال) ينفرد الإمام علي عليه السّلام ببيانه البليغ عن حقائق العرفان، ومراحل الحياة المعنوية، إذ يحتوي على الذخائر الجمّة، ما لم نجد مثليه في الآثار التي بين‌ أيدينا عند بقية الصحابة، وأشهر أصحاب الإمام علي عليه السّلام وتلاميذه «سلمان الفارسي» و «أويس القرني» و «كميل بن زياد» و «رشيد الهجري» و «ميثم التمّار» والعرفاء عامة في الإسلام يجعلون هؤلاء أئمة وهداة لهم.

وهناك طائفة أخرى‌ تأتي في الدرجة الثانية، وهم «طاووس اليماني» و «مالك بن دينار» و «إبراهيم الأدهم» و «شقيق البلخي» الذين ظهروا في القرن الثاني الهجري، وكانوا يعرفون بالزهاد وأولياء الله الصالحين، دون أن يتظاهروا بالعرفان والتّصوف، وعلى أية حال، فإنهم لم ينكروا ارتباطهم ومدى تأثرهم بالطائفة الأولى.

وهناك طائفة ثالثة ظهرت في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث للهجرة مثل «أبا يزيد البسطامي» و «المعروف الكرخي» و «جنيد البغدادي» وغيرهم، من الذين سلكوا طريق العرفان، وتظاهروا بالعرفان والتصوف، و لهم أقوال تدل على مدى المكاشفة والمشاهدة لديهم، ولما كانت هذه الأقوال تتصف بظاهرها اللاذع، فإنها قد أثارت عليهم الفقهاء والمتكلمين في ذلك العصر، وسببت المشاكل والفتن فأدّت إلى أن يزجّ بعضهم في السجون، والبعض الآخر يقدّم إلى أعواد المشانق.

وأمام هذا الوضع فقد أبدوا التعصب لطريقتهم مقابل المخالفين، وهكذا كانت طريقتهم تتسع وتنتشر يوما بعد يوم، ونجدها قد وصلت إلى ذروتها في القدرة والانتشار، في القرنين السابع والثامن الهجريين، حيث كانت تتسم بالرفعة والعلوّ تارة، ـ والسقوط والانحطاط تارة أخرى، ولا تزال تمارس حياتها حتى اليوم‌.

والظاهر أن أكثر مشايخ العرفان الذين جاء ذكرهم في كتب العرفان، كانوا على مذهب أهل التسنن، والطريقة التي نشاهدها اليوم (والتي تشتمل على مجموعة من عادات وتقاليد، لم نجد في الكتاب والسنة أساسًا لها) تذكّرنا بتلك الأيام، وإن كان البعض من تلك العادات والتقاليد انتقلت إلى الشيعة.

وكما يقال، إن هؤلاء كانوا يعتقدون أن الإسلام يعوزه منهج للسير والسلوك، والمسلمون استطاعوا أن يصلوا إلى طريقة معرفة النفس، وهي مقبولة لدى الباري عزّ وجلّ، مثل ما في الرهبانية عند المسيحيين، إذ لم يوجد أساس له في الدعوة المسيحية، فأوجدها النصارى وحبّذها جمع فانتهجها.

و يستنتج مما ذكر، أن كلًّا من مشايخ الطريقة، جعل ما رآه صلاحًا من عادات وتقاليد، في منهج سيره وسلوكه. وأمر متبعيه بذلك، وبمرور الزمن أصبح منهاجًا وسعيًا مستقلًّا، مثل مراسم الخضوع والخشوع، وتلقين الذكر والخرقة والاستفادة من الموسيقى والغناء عند إقامة مراسم الذكر، حتى آل الأمر في بعض الفرق منها أن تجعل الشريعة في جانب، والطريقة في جانب آخر، والتحق متبعو هذه الطريقة بنهج الباطنية. أما معايير النظرية الشيعية، فاستنادًا إلى المصادر الأساسية للإسلام (الكتاب والسنة) تقرّ خلاف ذلك، ومن المستحيل أن النصوص الدينية قد تغافلت عن هذه الحقيقة أو أنها أهملت جانبًا من جوانب هذا النهج والطريق (معرفة النفس والسير والسلوك)، ويستحيل عليها أيضًا أن تغض النظر عن شخص (أيّ كان) في الواجبات أو المحرمات.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد