كان الإمام الصادق عليه السلام يرى نفسه بين أمرين: إمّا أن يقبل الخلافة وينظر في شؤون ولاية الناس، وإمّا أن يرفض البيعة ويهتمّ بإحياء الإسلام المدمَّر المندرس. فاختار الثاني لعظمته، إذ إنّه بمستوى أصل نبوّة الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله، وإمامة أمير المؤمنين عليه السلام، واستشهاد سيّد الشهداء عليه السلام، وهذا الخيار الثاني يُسِرُّ حياة روح النبوّة والولاية وسرّ الشهادة وإن استلزم مشاقَّ مرهقة وأفضى إلى فَقْدِ الحقوق الظاهريّة والإمارة الدنيويّة. لكن هل تعلم أنّ تحمّل هذه المشاقّ يصبّ في مجرى المشاقّ التي عانى منها الرسول الأكرم وأمير المؤمنين، وأنّ فقد الخلافة والإمارة لا يساوي عنده شروى نقير في مقابل المحافظة على ذلك الأمر العظيم بمنظار الإمام الذي لا يرى إلّا الحقّ والواقع؟!
اختار الإمام عليه السلام الشقّ الثاني، ورفض الخلافة والإمارة من أجل إقرار هذا الأمر الخطير، واستنكف عن الاقتراب إلى الجهاز الحاكم أيضاً، وخرج من نطاق الحكومة والإمارة حتّى كأنّ هاتين المفردتين لم تَرِدا في قاموسه قطّ، وكأنّ الله لم يمنحه ذلك المقام فيحقّقه عمليّاً إذا تطلّبت المصلحة.
كان له بستان واسع في المدينة لاستقبال الوافدين عليه، وللتدريس والإجابة عن أسئلة المتقاطرين عليه من شتّى الأنحاء. ووقف أيّامه ولياليه على المسائل والمناقشات والمناظرات العلميّة وجميع فروع الدراسة والبحث العلميّ ليتمكّن من القيام بأعباء المسؤوليّة العظيمة المتمثّلة بعرض الدين القويم، وإرواء الناس السادرين من المنهل الفرات اللذيذ للآيات القرآنيّة والسنّة النبويّة. وهذا المنهل هو المذهب الجعفريّ، سلام الله على موجده والذاهب إليه.
وكان هذا العمل مهمّاً خطيراً ذا جوانب متعدّدة إلى درجة أنّ الإمام عليه السلام قد زاوله على امتداد ثلاثين سنة تامّة، فضلًا عن الفترة التي جاء بها إلى العراق. كما أنّ أعماله العلميّة الأخرى التي مارسها في رحلاته خارج المدينة كانت قائمة على هذا الأساس أيضاً.
النتائج التي حقّقها الإمام عليه السلام
وقد حقّق عليه السلام هدفه عبر تربية أربعة آلاف تلميذ في فنون مختلفة، وتأليف أربعمائة كتاب لأربعمائة مؤلِّف في أصول متنوّعة، وتفصيل حقائق القرآن والسنّة وتفسيرهما وتأويلهما.
وسدّ عليه السلام طريق الجور والاعتساف، الذي سلكه البلاط الحاكم وعملاؤه، من خلال إراءة الأحكام المستدلّ عليها والقوانين الصحيحة.
كما فتح الطريق للناس العُمي الصُّمّ المطبوع على قلوبهم نحو ملكوت السماوات عبر الفلسفة الإلهيّة والحكمة العالية وعرفان عوالم الغيب والتجرّد، ودلّ على طريق العبوديّة لربوبيّة الحقّ عزّ اسمه.
ومن جديد وبعد انقضاء عصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وصحابته أرباب القلوب الذين يحيون الليالي بالعبادة، عاد الناس إلى الالتحاق بصفوف عبّاد الليل علماء النهار. كما عادوا بعد انقضاء عصر أمير المؤمنين يلتقون بأمثال أصحابه الزهّاد العبّاد النسّاك السالكين العارفين كعثمان بن مظعون، وابن التَّيِّهان ونظائرهما.
وهنا ينطلق اللسان بلا اختيار ليُحيّيه عليه السلام من أعماق القلب والفكر مترنّماً بقوله تعالى: ﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾. (1)
وأصرّ عليه السلام على صيانة حياته، وتموين كلّ طالب بالعلوم حسب استعداده، وعدم إرباكهم وإحراجهم بإيداعهم السجن أو إبعادهم أو تعذيبهم أو قتلهم بلا مبرِّر ممّا يستبين أنّ ذلك كلّه كان من أجل المحافظة على الحياة وتأمين القوى والعِدّة والعُدّة ابتغاء الوصول إلى تلك الغاية الرفيعة، إذ من الواضح أنّه لو كان قد قُتِل، أو نُهبت أمواله، أو اجتيح مكان درسه، فلا تعليم عندئذٍ، ولا إحياءً للدين بعد ذلك.
علماً أنّ داره عليه السلام قد أحرقت، وأمواله قد سُلبت، وختمت حياته شهيداً بالسمّ. فهو كسيّد الشهداء عليه السلام الذي ما ادّخر وسعاً في سبيل تنفيذ ذلك الأمر المهمّ، وقد أعدّ واستعدّ وتأهّب، وأرسل أصحابه وأهل بيته إلى ميدان القتال فاستشهدوا بأرفع طريقة، وبقي إلى عصر عاشوراء يذود عن حياض الإسلام، وظلّ حتّى آخر رمق من حياته، ولم يهدر دمه اعتباطاً، وإلّا فإنّ قتله كان حتماً مقضيّاً. وكان ممكناً أن يقتل في أوّل هجوم صباح عاشوراء أو ليلة عاشوراء، ويستريح. فالكلام لا يدور حول الخلاص والاستراحة، بل يدور حول البقاء، والدفاع عن الحريم حتّى آخر قوّة وقدرة.
وأمّا ما يقال من أنّ قبول البيعة واجب على الإمام المفترض الطاعة! فإنّ اللزوم والوجوب إذا تهيّأت جميع الإمكانيّات ومحاسن القبول، ولم يكن في نظر الإمام إشكال في البيعة. وللإمام شأنيّة مقام الإمارة وفعليّته، سواء قَبِلَ الناس أم رفضوا، وبايعوا أم لم يبايعوا. أمّا قبول البيعة فيتوقّف على إقبال الناس وفقدان المحذورات، وهو ما ينبغي أن يكون ثابتاً عند الإمام. ويجب على الناس أن يلتفّوا على الإمام ويطوفوا حوله كطوافهم حول الكعبة، لا أنّ الكعبة تأتيهم فيطوفوا حولها.
فعندما أخذ أصحاب السقيفة البيعة لأبي بكر بعد وفاة الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم، وجاء العبّاس وأبو سفيان إلى أمير المؤمنين عليه السلام ليبايعاه، فإنّه قد رفض البيعة. وحينما قُتل عثمان وأجمع المهاجرون والأنصار على بيعته عليه السلام، وانثال الناس على بيته من كلّ حدب وصوب، فإنّه قد رفض أيضاً حتّى مضت ثلاثة أيّام وفي آخر اليوم الثالث إذ سئم الناس، وعمّت الجلبة والضوضاء أجواء المدينة، وتوسّط عمّار بن ياسر، ومالك الأشتر، ومحمّد بن أبي بكر، ونظائرهم بينه وبين الناس، وامتنع بشدّة، وكلّمه مالك الأشتر، فقال له ما مضمونه: يا عليّ! جميع أهل الحلّ والعقد حتّى طلحة والزبير راغبون في بيعتك، فإن أمسكتَ، والوقت ضيّق، بايع الناس أحدهما، وستتأوّه من فعالهم غداً، وتأتينا لدفع الظلم! وها نحن قد جئناك الآن، فاقبل البيعة لئلّا تبأسَ غداً!
قبل عليه السلام البيعة، فرفع طلحة والزبير لواء المعارضة، وأوقدا نار الجمل بالبصرة. ثمّ انتهت حرب الجمل بحرب صفّين، وحرب صفّين ولّدت حرب النهروان. ثمّ قتله خوارج النهروان في محراب العبادة. وكان عليه السلام منهمكاً في مواجهة الفتن الداخليّة على امتداد أربع سنين وأشهر كان فيها إمام المسلمين وخليفتهم، إذ لم يقتنع الناس بحقّهم، وكانوا يتوقّعون منه أشياء كثيرة. وهو رجل الحقّ وعنوان الحقّ.
وكان الإمام جعفر الصادق عليه السلام ابن عليّ هذا. وهو يعلم أنّه لو رضي ببيعة الناس، لتوقّع منه الذين أصرّوا على بيعته أشياء في غير موضعها. وهو ليس كمعاوية والمنصور لينفق بيت المال خدمة لمآربه الخاصّة، أو يولّي من ليس أهلًا للولاية. لهذا فإنّ أنصار اليوم المتدافعين حوله سيكونون من معارضيه وخصومه غداً.
ما هو الأفضل؟ أقبول مثل هذه الخلافة أم ما اضطلع به الإمام عليه السلام من مهمّة رساليّة؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). الآية ۱٥، من السورة ۱٩: مريم.
عدنان الحاجي
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ محمد صنقور
الشيخ نجم الدين الطبسي
السيد عباس نور الدين
الشيخ باقر القرشي
الشيخ محمد جواد مغنية
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
ألم الرفض الاجتماعي
الفراغ العجيب
الإعداد الرباني لزينب عليها السلام
أهميّة بيان الإمام الصادق (ع) للعلوم الإسلاميّة على تولّيه الخلافة
أعظم آية في القرآن الكريم
المسلمون وكتّاب العصر ووحي القرآن
الصادق (ع) في آراء العلماء (2)
الإمام الصّادق، الحوراء: من حزن إلى حزن
شبهة امتناع الإمام الصادق عن استلام الخلافة
{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}