مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مهدي الآصفي
عن الكاتب :
عالم ومفكر اسلامي كبير، واستاذ في الحوزة العلمية، توفي(٤/٦/٢٠١٥)

الحج دعوة وتلبية (1)

دعوة من الله - تعالى - لعباده أن يَحِلُّوا ضيوفاً عليه، عند بيته المحرّم، ويطلبوا قِراه، ويستفتحوا أبواب رحمته الواسعة. وإبراهيم (ع) خليل الرحمن، وأبو الأنبياء ورائد التوحيد، هو رسول الله - تعالى - إلى عباده، والمبلّغ عن الله في هذه الدعوة.

 

يقول تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) «1»، هذه هي الدعوة.

 

وأما التلبية فهي من ناحية الذين دعاهم ربّهم إلى بيته (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) يُشهرون فيها استجابتهم لدعوة ربّهم، ويعلنون الاستجابة كلّ سنة في جموع غفيرة حاشدة في الميقات من كلّ فجٍّ عميق.

 

ويرفعون إلى الله تعالى هذه التلبية كلّ سنة في رحاب الميقات بالتلبيات الأربعة التي علّمناها رسول الله (ص): «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ».

 

روى عبيد الله الحلبي عن أبي عبد الله (الصادق) (ع) قال: سألته لِمَ جُعِلَتْ التلبية؟ فقال: «إنّ الله - عزّ وجلّ - أوحى إلى إبراهيم (ع): (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا) فنادى فأجيب من كلّ فجٍّ عميق يلبّون» «2».

 

الدعوة:

 

الحجّ ضيافة الله - تعالى - لعباده، فهو عزّ شأنه استضافهم في بيته المحرّم في موسم الحج، كما أنّ الصيام ضيافة أخرى في شهر رمضان المبارك، وفي كلا الضيافتين يدعو الله - تعالى - عباده إلى أفضل مواهبه ونعمه.

 

والمواهب والنعم التي يدعو الله - تعالى - عباده إليها في الحج تختلف عمّا نألفه ونعرفه في حياتنا الدنيا من المواهب الإلهية والنعم، حتى عن تلك التي يهبها لعباده الصائمين في شهر رمضان.

 

فإنّ دعوة الحج تتضمن الدعوة إلى «التوحيد» و«التسليم» و«الإخلاص» و«الكدح في سبيل الله» و«التجرّد عن الأنا والهوى» و«الانقطاع إلى الله» و«انتزاع الغل والحقد من النفوس»، كما تتضمن الدعوة: الالتزام بقيم العبودية الخالصة لله وحده.

 

هذهِ هي الدعوة، والتلبية استجابة لهذه الدعوة الإلهية من العباد لدعوة الله - تعالى - لهم على لسان نبيّه إبراهيم (ع).

 

الدعوة والوعد بالاستجابة:

 

ومن جمال هذه الدعوة الإلهية - التي أشْهَرها إبراهيم خليل الرحمن بأمر من الله تعالى في عباده: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) - أنّ الله تعالى وعد عبده وخليله إبراهيم عندما أمره بإشهار هذه الدعوة... استجابة عباده لهذه الدعوة، (يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ).

 

فكأنّ الدعوة من الله لعباده، وإشهار الدعوة بأمر من الله، والاستجابة للدعوة بضمان ووعد من الله تعالى لعبده وخليله إبراهيم (ع).

 

ومنذ أنّ وعد الله - تعالى - إبراهيم عبده وخليله بالاستجابة لهذه الدعوة يُقْدم في كلّ عام حشد غفير من الحجاج من الميقات إلى البيت الحرام ليلبّوا هذه الدعوة.

 

الدعوة إلى التلبية الطوعية:

 

وكل ما في هذا الكون يلبّي أمر الله طائعاً، منقاداً في كلّ شيء لله تعالى، إلّا أنّ الله - تعالى - أكرم الإنسان بالدعوة إلى عبادته وطاعته طوع إرادتهم، وأكرمهم بهذه التلبية الطوعية.

 

وتختلف التلبية «الطوعية» عن التلبية «القهرية» أنّ الحركة منّا إلى الله حركة واعية، وبالحركة الواعية يبلغ الإنسان‌من الكمال والعروج إلى الله ما لا يصله بغيرها.

 

وهي ميزة وتكريم خصّ الله بها من اصطفى من خلقه؛ والنقطة المقابلة لهذا التكريم هي «السقوط» والهلاك إذا رفض الإنسان الاستجابة لله طوعاً، وعن اختيار؛ إنّ في كل استجابة طوعية لدعوة الله تعالى عروج إلى الله، وفي كل إعراض وصدود عن الله تعالى سقوط وهلاك.

 

وخصّ الله الإنسان وأكرمه بهذا الخيار «الصعب» (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا) «3».

 

الدعوة من الله والتلبية من العباد:

 

وتكريم آخر للإنسان في أصل الدعوة؛ فإنّ الدعوة عادة من صاحب الحاجة، والتلبية ممن يملك هذه الحاجة، والله تعالى هو الغني، وعباده الفقراء إليه: (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) «4».

 

وشاء الله أن يُكْرم عباده بأن دعاهم إلى عبادته، وهو الغني عن عبادة عباده له، وشاء الله أن تكون التلبية من عباده الفقراء إليه.

 

وحقّ عليهم أن يطلبوا من الله - تعالى - أن يأذن لهم بالعبودية والعبادة، ولكن الله - تعالى - بدأهم بهذه الدعوة، وأكرمهم بالتلبية والاستجابة، وهو غاية ما يمكن أن يبلغه الكرم، وإذا كانت هذه الدعوة من الله غاية الجود والكرم من الله، فإنّ الإعراض والصدود عنها غاية اللؤم من الإنسان، وإذا كانت الاستجابة لهذه الدعوة من سعادة الإنسان، فإنّ من بؤس الإنسان وشقائه الإعراض والصدود عن الاستجابة لهذه الدعوة.

 

ولهذا السبب قلت: إنّ الاستجابة لدعوة الله - تعالى - عروج إلى الله، والصدود والإعراض عنها سقوط وهلاك للإنسان. وكيف انعكس الأمر - في هذه الدعوة الإلهية - وانقلب العبد في فقره وحاجته من موقع الطالب والداعي والسائل إلى موقع «التلبية»؛ وكان الله تعالى هو صاحب الدعوة والطلب، وهو غني بذاته عن خلقه وعباده.

 

إنّ لهذا الانقلاب في المواقع سرّاً، وهو خصلة الكرم والجود الذاتية والأصيلة في الذات الإلهية، فهو سبحانه وتعالى يُحبُّ أن يجود على عباده، ويُحبُّ أن يكرمهم وأن يحسن إليهم، كما نحتاج نحن إلى جوده وكرمه وإحسانه.

 

وحبّ الجود والكرم والإحسان والعطاء صفة من صفات ذاته عزّ شأنه، وليس على الإنسان إلّا أن يضع نفسه في مواضع جوده وكرمه وإحسانه وعطائه تبارك وتعالى، وهذه حقيقة من حقائق العلاقة بين الله تعالى وعباده، وهذه الحقيقة تفتح على الإنسان أبواباً من المعرفة.

 

فكما نحتاج نحن إلى رحمة الله تعالى وفضله يحبّ الله تعالى أن يجود برحمته وفضله على عباده؛ وهذه العلاقة قائمة بين كلّ غني وفقير؛ ولا تقلّ حاجة الغني إلى العطاء والكرم عن حاجة الفقير إلى الغني، في حالة سلامة الفطرة.

 

والله تعالى غني عن عباده، وغناه في ذاته، فلا يحتاج عبادَه وخلقه في شيء، ولكنّه يحبّ أن يجود عليهم، ويكرمهم، ويعطيهم من فضله ورحمته، كما نحتاج نحن إلى رحمته وفضله وجوده.

 

وهذا هو سرّ دعوة الله لعباده بالإقبال عليه، والدخول في رحاب ضيافته، والوقوف على أبواب رحمته، في شهر ذي الحجة، في عرفات، عند بيته المحرّم، وفي شهر الصيام، فيدعو الله تعالى عباده لدعائه؛ ليستجيب لهم برحمته وفضله.

 

وهذه الألطاف من سنن الكرم الإلهي؛ يقول تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) فتحل دعوة العبد، في هذه الآية الكريمة بين دعوة الله تعالى واستجابته.

 

فالله عزّ شأنه يدعو عباده لدعائه ليستجيب لهم (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)، فيقع دعاء العبد بين «دعوته» تعالى له بالدعاء، و«استجابته» سبحانه لدعائه.

 

والله عزّ شأنه يحبّ دعاء عباده، ويشتاق إلى مناجاتهم، ويحب الاستجابة لدعائهم.

 

عن رسول الله ( ص ): «إنّ الله أحبّ شيئاً لنفسه، وأبغضه لخلقه، أبغض لخلقه المسألة، وأحبّ لنفسه أن يُسأل، وليس شيء أحبّ إلى الله - عزّ وجلّ - من أن يُسأل فلا يستحي أحدكم من أن يسأل الله من فضله، ولو شسع نعل» «5».

 

وعن أبي عبد الله الصادق (ع): «أكثروا من أن تدعو الله، فإنّ الله يحبّ من عباده المؤمنين أن يدعوه، وقد وعد عباده المؤمنين الاستجابة» «6».

 

وفي الدعاء الذي علّمه أمير المؤمنين (ع) لكميل بن زياد النخعي (رحمة الله): «وأمرتهم بدعائك، وضمنت لهم الإجابة» ودعاء العبد يقع بين تلك الدعوة وهذه الإجابة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الحج : 27

(2) بحار الأنوار 184 : 99 ؛ وعلل الشرايع : 416

(3) الأحزاب : 72

(4) فاطر : 15

(5) فروع الكافي 196 : 1 ؛ من لا يحضره الفقيه 23 : 1

(6) وسائل الشيعة 1086 : 4 ح 8616

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد