السيد محمد باقر الصدر ..
أحكام الثروة في الإسلام:
إنّ أحكام الثروة في الشريعة الإسلاميّة تُمثِّل جانباً بارزاً من الأوامر الإلهيّة الّتي تُحدِّد دور الإنسان كخليفة الله على الأرض ومدى التزامه وتطبيقه لها. وقد قدّم الإسلام هذه الأحكام من خلال صورتين:
إحداهما: الصورة الكاملة إسلاميّاً.
والأخرى: الصورة المحدّدة إسلاميّاً.
الصورة الكاملة
وهي الصورة التشريعيّة الّتي تُعطى إسلاميّاً في حالة مجتمع كامل يُراد بناء وجوده على أساس الإسلام، وإقامة اقتصاده وخلافته في الأرض على ضوء شريعة السماء.
الصورة المحدّدة
وهي الصورة التشريعيّة الّتي تُعطى إسلاميّاً في حالة فرد متديّن يُعنى شخصيّاً بتطبيق سلوكه وعلاقاته مع الآخرين على أساس الإسلام، غير أنّه يعيش ضمن مجتمع لا يتبنّى الإسلام نظاماً في الحياة، بل يسير وفق أنظمة اجتماعيّة وأيديولوجيّات عقائديّة أخرى.
والفارق بين الحالتين كبير وجوهريّ، وتبعاً لذلك تختلف الصورتان، ويُمكن أنْ نُلخِّص أهمَّ أسباب الاختلاف بين الصورتين فيما يلي:
أوّلاً: إنّ عدداً من الأحكام الثابتة في الشريعة الإسلاميّة يتجاوز قدرة الفرد، ويُعتبر حكماً موجّهاً نحو المجتمع. وهذا النحو من الأحكام لا موضع له في الصورة المحدّدة الّتي تَرسم للفرد المتديّن سلوكه الاقتصاديّ، بينما هي جزء أساس في الصورة الكاملة لاقتصاد المجتمع الإسلاميّ.
ومن أمثلة ذلك: وجوب إيجاد التوازن الاجتماعيّ في المجتمع الإسلاميّ، وهذا الوجوب يُمثِّل تكليفاً للمجتمع وليس له مدلول علميّ في التطبيق الدينيّ الفرديّ البحت.
ثانيّاً: إنّ المؤشّرات الإسلاميّة العامّة الّتي تُشكِّل أساساً للعناصر المتحرّكة في الاقتصاد الإسلاميّ، تدخل في تكوين الصورة الكاملة لاقتصاد المجتمع الإسلاميّ، إلّا أنّها - غالباً - لا تلعب أيّ دور في الصورة المحدودة لسلوك الفرد المتديّن، لأنّها ترتبط بصيغ تشريعيّة يصوغها وليّ الأمر -وفقاً لصلاحيّاته الشرعيّة وتجسيداً لمسؤوليّاته في قيادة المجتمع- على ضوء تلك المؤشّرات العامّة.
ومثال ذلك: الصيغ التشريعيّة الّتي يصوغها الحاكم الشرعيّ وفقاً لصلاحيّاته في مقاومة الاحتكار الاقتصاديّ بجميع أشكاله. فإنّ هذه الصيغ لا تنفصل عادة عن الدور القياديّ للحاكم الشرعيّ، وتكون مجمّدة في حالة فرد متديّن يعيش ضمن مجتمع غير ملتزم اجتماعيّاً بالإسلام.
ثالثاً: إنّ حالة الفرد المتديّن الّذي يعيش ضمن مجتمع لا يتبنّى الإسلام منهجاً للحياة، هي حالة معقّدة ومتناقضة بين تكليفه الشرعيّ والضرورات الّتي لا يجد لها سبيلاً في المجتمع غير الإسلاميّ.
مثال ذلك: موقف الفرد المتديّن من البنوك الحكوميّة في مجتمع يؤمن نظامه بالربا، وموقف المجتمع الإسلاميّ من البنوك ذاتها، فالأوّل قد يسمح له بأخذ الفائدة على ما يودعه في تلك البنوك باعتبارها مالاً مجهول المالك، وأما المجتمع الإسلاميّ فهو يرفض الفائدة رفضاً كاملاً، ويربط أرباح البنك بالعمل، وبما يُساهم به من جهد منتج في الحياة الاقتصاديّة.
أحكام الثروة بين الفقه الفرديّ والفقه المجتمعيّ:
في أكثر الرسائل العمليّة للفقهاء تُقدَّم عادة الصورة المحدودة والفرديّة، لأنّها تتعامل مع فرد متديّن يُريد أنْ يُطبِّق سلوكه على الشريعة رغم وجوده في مجتمع غير ملتزم بالإسلام منهجاً في الحياة.
ومن هنا لم تكن الصورة الّتي توحي بها تلك الرسائل العمليّة كافية لاستيعاب التصوّر الشامل لأهميّة الاقتصاد الإسلاميّ، وثماره المرجوّة في توفير السعادة والرفاه، ولكنّه مع هذ صورة لا غنى عنها، والهدف من تقديمها تحقيق ما يلي:
أوّلاً: تمكين الفرد المتديّن من طاعة ربّه والخروج عن عهدة التكليف في سلوكه الخاصّ.
ثانياً: الحفاظ عمليّاً على ما يُمكن للفرد المتديّن من الحفاظ عليه وتبنّيه في واقع الحياة، كتعبير حيّ عن الإيمان برسالة السماء، والإصرار على أنّها المنهج السويّ للحياة، وعن الرفض الضمنيّ لأيّ نظام اجتماعيّ آخر.
ثالثاً: تحقيق نصيب من العدالة الاجتماعيّة الّتي يتوخّاها الإسلام بالقدر الّذي تتّسع له قدرة الفرد المتديّن في مجال التطبيق، وقد يكون من أروع الأمثلة على ذلك الدور الإنسانيّ الربّانيّ الّذي تقوم به فريضتا الزكاة والخمس في مجال التكافل الاجتماعيّ ورعاية الفقراء البائسين.
عناصر الصورة الكاملة إسلاميّاً:
قبل أنْ نتعرّف إلى العناصر المكوّنة للصورة الكاملة إسلاميّاً، لا بدّ أنْ نبدأ بتحليل العلاقات الّتي يُمارسها الإنسان في حياته الاقتصاديّة، فإنّ الإنسان يُمارس نوعين مختلفين من العلاقات:
أحدهما: علاقاته مع الطبيعة من خلال محاولته السيطرة عليها والاستفادة من خيراتها، وهذا النوع من العلاقات تُجسّده عادة (عمليّة الإنتاج) بأشكالها المختلفة على مرّ التأريخ، فالحجر البسيط، والمحراث اليدويّ، والطاحونة الهوائيّة، والآلة البخاريّة، والمحرّكات الكهربائيّة، كلّها أشكال من الإنتاج تُعبِّر عن العلاقات المتنوِّعة الّتي نشأت بين الإنسان والطبيعة في مجال استثماره لها على مرِّ التأريخ.
والآخر: علاقاته مع الإنسان الآخر الّذي يُشاركه حقّه في الاستفادة من الطبيعة وخيراتها، وهذه العلاقات تُجسّدها عادة (عمليّة التوزيع) بأشكالها المختلفة، فالاسترقاق، والنظام الإقطاعيّ، والرأسماليّة، والإشتراكيّة، والاقتصاد الإسلاميّ كلّها أشكال من التوزيع وتُعبّر عن علاقات متنوِّعة تقوم بين أفراد المجتمع لتحديد طريقة اشتراكهم في خيرات الطبيعة إيجاباً وسلباً.
ففي التصوّر الإسلاميّ (علاقات الإنتاج) يجب أنْ تتأثّر باستمرار بتطوّر خبرة الإنسان بالطبيعة وتقدّمه العلميّ.
وأمّا (علاقات التوزيع) فهي تقوم في التصوّر الإسلاميّ على الحقوق الإنسانيّة الثابتة الّتي تُعبّر عنها خلافة الإنسان في الأرض، والّتي تؤكّد على الحقّ، والعدل، والمساواة، والقيم، والكرامة وغيرها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تؤكّد على شجب علاقات التوزيع القائمة على أساس الاستغلال والظلم مهما كان مستوى الإنتاج وشكله.
فالإسلام لم يجعل شكل التوزيع يتحدّد ويختلف بالضرورة تبعاً لاختلاف عمليّة الإنتاج، بل ربط بين العمل والملكيّة، أيْ جعل العمل والحاجة أساسيّين للملكيّة في الاقتصاد الإسلاميّ، بل ومبدأً ثابتاً في علاقات التوزيع لا يختلف فيه عصر الإنتاج اليدويّ عن عصر الإنتاج الآليّ، ومجتمع الطاحونة الهوائيّة عن مجتمع الطاحونة البخاريّة. وكلّ ذلك أي من أدوات الإنتاج ليس هو ما يُعلّم الإنسان معنى العدل، وإنّما نموّ أدوات الإنتاج وتطوّرها في يد بعض أفراد المجتمع قد يُمكِّنه من الانحراف عن مسيرة العدل الاجتماعيّ والخلافة الإنسانيّة العامّة على الأرض، بما يفتح أبواب الاستغلال والظلم على مصاريعها، ولذا لا بُدَّ من صيانة المجتمع والتصدّي لكلِّ أشكال الاستغلال والظلم من خلال تشريعات تضمن عدم تأثير تطوّر أدوات الإنتاج على سلامة التوزيع وعدالته. وعلى هذا الأساس تُقسّم عناصر الصورة الكاملة لاقتصاد المجتمع الإسلاميّ إلى ثلاثة أقسام:
عناصر الاقتصاد الإسلاميّ:
1- عناصر ثابتة: تُنظّم علاقات التوزيع وفقاً لمبادىء العدالة الاجتماعيّة والخلافة العامّة للإنسان على الأرض. وهذه العناصر قد وُضعت في الإسلام على شكل أحكام منصوصة في الكتاب الكريم والسُّنّة، أو مستخلصة من الأحكام المنصوصة، ومثال ذلك: ما تقدّم من ربط الملكيّة بأساسين فقط هما العمل والحاجة.
2- عناصر متحرِّكة في مجال التوزيع: وتنظيم علاقاته، تدعو الضرورة إليها بسبب المستجدّات والمتغيّرات في عمليّة الإنتاج وملابساتها، ومدى ما يُمكن لهذه المتغيّرات من إيجاد فرص جديدة للاستغلال. ويدخل في هذا القسم العناصر الإسلاميّة المتحرّكة الّتي حدّدنا فيما سبق مؤشّراتها الثابتة في الشريعة الإسلاميّة.
ومثال هذا القسم: تحديد الحاكم الشرعيّ حدّاً أعلى لا يُسمح بتجاوزه في عمليّة إحياء الأرض أو غيرها من مصادر الثروة الطبيعيّة، فيما إذا كان السماح المطلق مع نمو آليّات الإنتاج، قد يؤدّي إلى إمكان ظهور ألوان من الاستغلال والاحتكار الّتي لا يُقرّها الإسلام.
3- عناصر متحرِّكة في مجال الإنتاج: وتحسينه وتطوير أدواته وتنمية محصوله. وهذه العناصر متطوّرة بطبيعتها، ولا معنى لافتراض الثبات في علاقات الإنسان بالطبيعة ما دامت هذه العلاقات وليدة الخبرة البشريّة وتناميها باستمرار. والأساس لهذه العناصر المتحرِّكة هو البحث العلميّ والعلوم الطبيعيّة.
وعلى الدولة الإسلاميّة أنْ ترسم سياسة اقتصاديّة للإنتاج تقوم على العناصر المتحرِّكة المستوحاة من تلك الدراسات والخبرات، وأنْ تكون أهداف السياسة منسجمة مع تقييم الإسلام للإنتاج وتوجيهه الحضاريّ له.
المسؤوليّات العامّة للدولة الإسلاميّة:
لقد أضحت القوّة الاقتصاديّة من أكبر القوى الاجتماعيّة الّتي تدخل في تقييم المجتمعات المعاصرة وتحديد درجة قوّتها وصمودها على الساحة الدوليّة، قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾. لا تعني الآية هنا القوّة العسكريّة فقط، بل كلّ قوّة تُحقِّق للمجتمع الإسلاميّ رهبة في نفوس المجتمعات الجاهليّة الّتي تتربّص به وتتآمر عليه، وفي طليعة هذه القوى القوّة الاقتصاديّة للمجتمع. وعلى هذا الأساس يُمكن تحديد مسؤوليّات الدولة الإسلاميّة عن الحياة الاقتصاديّة في المجتمع في خطّين عريضين:
أحدهما: تطبيق العناصر الثابتة من الاقتصاد الإسلاميّ.
والآخر: ملء العناصر المتحرِّكة وفقاً لظروف الواقع وعلى ضوء المؤشّرات الإسلاميّة العامّة الّتي تقدّم ذكرها.
وتتفرّع من هذين الخطّين عدّة مسؤوليّات تفصيليّة، منها:
1- مسؤوليّة الضمان الاجتماعيّ انطلاقاً من حقّ الأمّة جميعها في الانتفاع بثروات الطبيعة وخيراتها.
2- مسؤوليّات التوازن الاجتماعيّ، بمعنى توفير حدّ أدنى من الراحة والرفاه لكلِّ أفراد المجتمع من خلال توفير إمكانات العمل وفرص الإنتاج للجميع، ومن خلال منع تجاوز مستوى المعيشة بصورة حادّة، أو احتكار الثروة في طبقة خاصّة.
3- مسؤوليّة رعاية القطاع العامّ واستثماره بأقصى درجة ممكنة، وذلك من خلال الاستفادة من أحدث الأساليب وكلّ المستجدات العلميّة في سبيل تنميته وإصلاحه والارتفاع بمستوى قدرته الإنتاجيّة.
4- مسؤوليّة الإشراف على مجمل حركة الإنتاج في المجتمع، وإعطاء التوجيهات اللّازمة بهذا الصدد تفادياً لمشاكل الفوضى في الإنتاج، والحيلولة دون الإسراف في الإنتاج على المستويين الفرديّ والمجتمعيّ.
5- وضع سياسة اقتصاديّة لتنمية الدخل الكلّيّ للمجتمع ضمن الصيغ التشريعيّة الّتي تتّسع لها صلاحيّات الحاكم الشرعيّ.
وعلى ضوء ما تقدّم نكون قد حدّدنا تصوّراً عن حياة المجتمع الإسلاميّ وما يسوده من صور العدالة والرخاء، وذلك من خلال توجيهه للأهداف والقيم الإسلاميّة الكبرى والعمل على تحقيقها.
ـــــــــــــــــــــــ
الإسلام منهج حياة، سلسلة دروس في فكر الشهيد الصدر، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الزهراء للإمام عليّ: اشتملت شملة الجنين (2)
الإسلام وميول الإنسان
شروط البحث
الزهراء للإمام عليّ: اشتملت شملة الجنين (1)
التمثيل بالمحقَّرات في القرآن
الشّيخ صالح آل إبراهيم: ميثاقنا الزّوجي
اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا
المادة على ضوء الفيزياء
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (أبيض وأسود) بنسخته الثّالثة
القرآن وجاذبيّته العامة