مقالات

إذا شئتَ النجاة


الشيخ جعفر التستري ..

إنّ جميع ما يُذكر في ثواب الأعمال وخواصّها، فإنّما ذلك لبيان مقتضاها من حيث هي، ولكلٍّ منها موانع تدفع مقتضاها، وذلك لا ينافي ثبوت الخاصّية.
فجميع ما يُذكر في فضائل الأعمال والأدعية ونحوها، قد تقابلها موانع تدفع خاصّيتها وترفعها، والمانع قد يدفع أثرها بالكلّية، وقد يبقى منه شيء، وبذلك يختلف حال الناس في محشرهم؛ فقد يكون لهم مقدار من الإيمان والأعمال تنجيهم من العقاب في أوّل احتضارهم، وقد تنجي بعد عذاب الاحتضار، أو بعد عذاب مدّة في البرزخ، أو بعد البرزخ أوّل المحشر، وقد تنجي في أثناء يوم القيامة وفي أحد مواطنها، وقد يغلب المانع فلا تحصل النجاة إلّا بعد عذاب البرزخ، أو بعد عذاب المحشر أيضاً، أو بعد عذاب جهنّم أيضاً، ثمّ تحصل النجاة. وقد لا يتحقّق ذلك أيضاً لسلب الإيمان، فيخلد في النار والعياذ بالله تعالى. وهذا كلام جارٍ في جميع الأعمال والمثوبات.
فاذا عرفت هذه المقدّمة، فاعلم أنّ لزيارة الحسين عليه السلام، فضيلة خاصّة فاقت كلّ الفضائل، وهي أنّه لو تحقّقت الموانع من تأثيراتها التي تقدّم ذكرها، فلا يمكن ذهاب كلّ تأثيراتها، ولو مع جميع الموانع، لأنّ طُرق الخلاص بها ومحالّه كثيرة، فكلّما حصل مانع من أحد تأثيراتها، حصل مقتضًى آخر لتأثيرٍ آخر، وإذا حصل لها أيضاً مانع أو بطلت بمقتضاه، تحقّق مقتضىً آخر. فزيارته عليه السلام، لا يبطل أثرها، وكلّما منعت الذنوب من تأثيرٍ لها في محلٍّ ظهر في محلٍّ آخر، من الاحتضار إلى بعد انقضاء يوم القيامة، ودخول كلّ من المغفور والمعذَّب إلى محلّه.


الشفاعة المحمّديّة: اِلحَقوا بِلواءِ رَسولِ الله

ولنبيّن كيفية ذلك، نقول: إنّ زائر الحسين عليه السلام، إذا ترتّبت على زيارته الآثار والفضائل الثابتة له من الجهات التي ذكرناها، خرج من الدنيا كيوم ولدته أمه، ووصل بذلك إلى أعلى الدرجات الحاصلة للزائرين.
وإن منعت كثرة الذنوب من حصول هذه المراتب والجهات فمات مذنباً مؤاخَذاً، رجونا له أن يصلح أمره بزيارة الحسين عليه السلام له عند وفاته، وأوّل برزخه، فإن تأخّر ذلك لخصوصية في عظمة ذنوبه، رجونا له أن يزوره الحسين عليه السلام، في أيام برزخه، ويكون التأخير والتعجيل على ما هو مقرّر في القابليات والموانع.
وإذا سقط عن قابلية ذلك واشتدّت الموانع المقرّرة، ظلّ معذَّباً في أيام برزخه كلّها، فإذا حُشر الناس، وجاء النبيّ صلّى الله عليه وآله، ومعه جبرئيل عليه السلام، يتصفّحان وجوه أهل المحشر لانتخاب زوّار الحسين عليه السلام، ويعرفانهم بما وُسم في جبهتهم من مَيسم النور: «هَذا زائرُ قبر خيرِ الشُّهداء»، فمَن وجدا في سيماه ذلك، أخذا بعضده وخلّصاه من أهوال القيامة، وشدائدها.


فإذا لم يكن في الشخص قابلية لذلك أيضاً، وقد محت ظلمةُ الذنوب مَيسَم هذا النور، وانمحت تلك السطور في جبهته فبقي مبتلياً في المحشر، فيحصل الرجاء بخلاصه بطريقٍ آخر. عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:
«ينادي منادٍ يوم القيامة: أينَ شيعةُ آلِ مُحمّد؟ فيقوم عنقٌ مِن النّاسِ لا يُحصيهم إلّا الله تعالى، ثمّ يُنادي مُنادٍ: أينَ زُوّارُ الحسين بن عليٍّ عليهما السّلام؟ فيقومُ أناسٌ، فيُقال لهم: خُذوا بِيَدِ مَن أحببتُم وانطلِقوا بِهم إلى الجنّة، فيَأخذ الرّجلُ بِيَدِ مَن أحبّ».
وإذا لم تكن فيك هذه القابلية أيضاً، ولا قابلية للأخذ بيدك، فهنا رجاءٌ لخلاصك بطريقٍ آخَر، وهو حين يأتي نداء خاصّ آخر؛ فقد ورد في الحديث المعتبر عن الصادق عليه السلام، قال: «إذا كان يومُ القيامةِ نادى منادٍ: أينَ زُوّار الحُسين بن عليّ عليهما السّلام؟ فيَقومُ عنقٌ من النّاسِ لا يُحصِيهم إلَّا اللهُ تعالى، فيقولُ لهُم: ماذا أردْتُم بِزيارةِ قبرِ الحُسين عليه السّلام؟ فيقولون: يا ربِّ أتَيناهُ حُبّاً لِرسولِ الله صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وَسَلّمَ، وحبّاً لِعَليٍّ وفاطمة عليهما السّلام، ورحمةً لهُ مِمَّا ارتـُكِبَ منهُ. فيُقال لهُم: (هذا مُحمَّدٌ وعليٌّ وفاطمة والحَسنُ والحُسينُ صلواتُ الله تعالى عليهم، فالحَقوا بِهم فأنتُم معهُم في دَرجتِهم، اِلحَقوا بِلواءِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وَسلّم)، فَينطَلِقُون إلى لواءِ رسولِ اللهِ فيَكونُون في ظِلِّه، واللِّواءُ في يدِ عليٍّ عليه السَّلام، حتّى يَدخلوا الجَنَّةَ جميعاً، فيكونونَ أمامَ اللِّواء وعن يَمينَه وعَن يسارِه ومِن خَلفِه».
أقول: يا معشر المذنبين، إذا كنتم من زوّار الحسين عليه السلام، وسقطتم عن قابلية أن يجيء إليكم النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله، وجبرئيل الملَك عليه السلام، ويأخذا بأعضادكم للنجاة من الأهوال يوم القيامة، وأن تأخذوا بيد أحد فتدخلوه الجنة، فأجيبوا هذا النداء، وقوموا أنتم بأنفسكم والتحقوا باللواء بعد أن يؤذَن لكم، ولو خلفه، أو آخِر من يكون خلفه.


الشفاعة الفاطميّة: مَن اعتَصَم بكِ فهو معكِ

وإذا لم تحصل القابلية، ولم يأتِ أحدٌ ليأخذ بيدك، ولم تكن لك قدرة لإجابة ذلك المنادي، لكون الذنوب قد أثقلت ظهرك وطرحتك، وقعدت بك أغلالك، فلا تَخِيبنّ بعدُ من آثار زيارة الحسين عليه السلام، ووسائله أيضاً، وانتظر لخلاصك حالة أخرى تقع في المحشر، هي حالة رجاء عظيمة.
بيانها أنّ لفاطمة البتول عليها السلام كيفية خاصة لمجيئهـا إلى المحشر، ومنها أنّها يكون معها ثياباً مصبوغة بالدماء، وفي بعضها أنّ معها قميص الحسين عليهما السلام، ملطّخـاً بدمه.
ثمّ إنّ لها، عليها السلام، خصوصية في شفاعتهـا. فإنّها تُنادَى حينئذٍ: «يا فاطمـة، سَلي حاجَتَكِ»، فتقول عليها السلام: «يا ربِّ شيعتي»، فيقول الله تعالى: «قد غفرتُ لهم»، فتقول: «شيعةُ شِيعتي»، فيقول الله تبارك وتعالى: «انطلقي، فمَن اعتَصَم بكِ فهو معكِ»، فتسير ويقوم كلّ هؤلاء يسيرون معها.
فيا مَن زار ولدها وساعدها في بكائه ووَصَلها، إن لم يخلّصك أخْذ النبي صلّى الله عليه وآله، بيدك لعدم قابليتك، ولا أمكنك النهوض عند نداء المنادي، فإنّك لا تبقى في الشدائد عند هذه الحالة لوجود الشفاعة الفاطمية، فإذا قالت: «شِيعتي»، شملَتك، وإن لم تشملك، فقولها عليها السلام: «شيعةُ شِيعتِي»، وإن لم يشملك ذلك، شملك قوله تعالى لها: «مَنِ اعتَصَم بكِ»، فإنّ أشدّ الاعتصام بها زيارة ولدها الحسين عليه السلام، والبكاء عليه والاهتمام بما يتعلّق بالحسين عليه السلام، فلا أظنّك تبقى في أرض المحشر بعد مسيرها إلى الجنّة ولا تمشي معها عليها السلام، وأنت زائرٌ للحسين عليه السلام.


الشفاعة الحسينيّة: ..وإنْ وجدتُه في النار أخرجتُه

فإذا خفت من شدّة تأثير ذنوبك مع ذلك، فلا ينتابك اليأس في تلك الحالة ولا تظنّن أنك ستبقى بعدها في المحشر معذّباً مخلّداً، وإن لم يكن مناصّ من أخذك إلى النار، وابتلائك بها والعياذ بالله، فإنّه لا بدّ أن يأتيك الحسين عليه السلام، وأنت في النار. فإنّ هذا آخر أوقات زيارته لمَن زاره، فقد روي عنه عليه السلام، أنّه قال: «مَن زارني زرتُه بعد وفاته، وإنْ وجدتُه في النّار أخرجتُه»، فهذه آخر حالة خلاصٍ لأدنى الزائرين درجة، وأعظمهم ذنباً، والحمد لله ربّ العالمين.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد