السيد عباس نور الدين
"وَبِكُمْ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَبِكُمْ يُمْسِكُ السَّماءَ أنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إلاّ بِإذْنِهِ، وَبِكُمْ يُنَفِّسُ الْهَمَّ وَيَكْشِفُ الضُّرَّ، وَعِنْدَكُمْ ما نَزَلَتْ بِهِ رُسُلُهُ، وَهَبَطَتْ بِهِ مَلائِكَتُهُ".[1]
المتأمّل في العديد من النصوص الدينية والأدعية الواردة عن أهل بيت العصمة والطهارة والتي وردت حول شهر رمضان وفي أجوائه، يدرك أنّ لهذا الشهر منزلة خاصّة من بين أشهر السنة، وأنّ هذه المنزلة ترجع بالدرجة الأولى إلى وجود ليلة القدر فيه.
نقول في الدعاء:
"وَهذا شَهْرٌ عَظَّمْتَهُ وَكَرَّمْتَهْ، وَشَرَّفْتَهُ وَفَضَّلْتَهُ عَلَى الشُّهُورِ، وَهُوَ الشَّهْرُ الَّذي فَرَضْتَ صِيامَهُ عَلَيَّ، وَهُوَ شَهْرُ رَمَضانَ، الَّذي اَنْزَلْتَ فيهِ الْقُرْآنَ، هُدىً لِلنّاسِ وَبَيِّنات مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانَ، وَجَعَلْتَ فيهِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَجَعَلْتَها خَيْراً مِنْ اَلْفِ شَهْر".[2]
التأمّل العميق في معاني وأسرار هذه الليلة يكشف لنا عن كونها ليلة استفاضة خليفة الله من علم الله. إنّها الليلة التي يتعرّف فيها ولّي الله الموكل بقيادة رسالة الله إلى ما ينبغي أن يقوم به في العام القابل. إنّها ليلة تلقّي ورقة المهمّات المرتبطة بدوره الكبير في هداية العالم.
فعنْ أَبِي جَعْفَرٍ الثَّانِي (ع) أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (ع) قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: "إِنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَإِنَّهُ يَنْزِلُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَة أَمْرُ السَّنَةِ، وَلِذَلِكَ الْأَمْرِ وُلَاةٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ (ص). فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ: أَنَا وَأَحَدَ عَشَرَ مِنْ صُلْبِي أَئِمَّةٌ مُحَدَّثُونَ".[3]
وعن الإمام الصادق(ع): "قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ـ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ يَقُولُ يَنْزِلُ فِيهَا كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ وَالْمُحْكَمُ لَيْسَ بِشَيْئَيْنِ إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَمَنْ حَكَمَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ فَحُكْمُهُ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ حَكَمَ بِأَمْرٍ فِيهِ اخْتِلَافٌ فَرَأَى أَنَّهُ مُصِيبٌ فَقَدْ حَكَمَ بِحُكْمِ الطَّاغُوتِ. إِنَّهُ لَيَنْزِلُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ تَفْسِيرُ الْأُمُورِ سَنَةً سَنَةً يُؤْمَرُ فِيهَا فِي أَمْرِ نَفْسِهِ بِكَذَا وَكَذَا؛ وَفِي أَمْرِ النَّاسِ بِكَذَا وَكَذَا، وَإِنَّهُ لَيَحْدُثُ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ سِوَى ذَلِكَ كُلَّ يَوْمٍ عِلْمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْخَاصُّ وَالْمَكْنُونُ الْعَجِيبُ الْمَخْزُونُ ـ مِثْلُ مَا يَنْزِلُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مِنَ الْأَمْرِ؛ ثُمَّ قَرَأَ: {وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}".[4]
نظرة عامّة إلى أدوار الإمام الذي بلغ مقام خلافة الله، تدلّنا على موقعيّته المصيريّة بشأن كل ما يجري في حياتنا.
إنّ كل الخيرات والبركات التي سننالها خلال السنة التي تلي هذا الشهر، ستتحدّد في هذه الليلة ووفق ما ينجزه هذا الإمام فيها. فنحن هنا نشبه أولئك المنتظرين خارج غرفة اجتماعات يقوم فيها مسؤولون كبار باتّخاذ قرارات تحدّد مصيرهم؛ غاية الأمر أنّ بإمكاننا أن نشارك في هذا الاجتماع المصيريّ ويكون لنا جزاء مشاركتنا وثوابه. لكن كيف؟
إذا كان سعي الإمام ونشاطه خلال هذه الليلة عاملًا أساسيًّا لتحديد ما سيجري فيها، فعلينا أن نتعرّف إلى ما يقوم به الإمام، لعلّنا نوفّق لمساندته ومؤازرته، فننال المزيد من البركات والتوفيقات.
أجل، منذ أن بدأ عصر البشريّة وخليفة الله يمثّل الحبل المتّصل بين السماء والأرض. وبمقدار ما يشدّ من هذا الحبل، تُنزل السماء من بركاتها. فإذا كثر الذين يشدّون الحبل معه وأصبحوا أكثر قوّة في الشدّ، فمن المتوقّع أن يزداد عطاء السماء.
لا شك بأنّ كل ما يصيب الناس من خيرٍ أو شرّ ينزل من السّماء؛ لكنّ الخير الحقيقيّ هو ذلك الأمر الذي يكون عامل هدايتهم وكمالهم وسعادتهم. ولا خير حقيقيًّا إلّا ما كان عبر الإمام وبيديه. فإذا كانت ثمرة صيامنا وعبادتنا وسعينا توثيق الاتّصال بوليّ الله وخليفته في أرضه، فهذا يعني أنّ عباداتنا تسلك الطريق الصحيح. ولهذا قصة مفصلة.
فالمؤمن العاقل هو الذي يربط كلّ حياته ومصيره بهذا الوليّ، ويجعل سعيه بتبع سعيه، وسيره على طريقه ونهجه، ولا يسعى للاتّصال بالله إلّا من هذا الباب الذي فتحه الله لعباده.
"أيْنَ بابُ اللهِ الَّذى مِنْهُ يُؤْتى، أيْنَ وَجْهُ اللهِ الَّذى اِلَيْهِ يَتَوَجَّهُ الاْوْلِياءُ، أيْنَ السَّبَبُ الْمُتَّصِلُ بَيْنَ الاْرْضِ وَالسَّماءِ، أيْنَ صاحِبُ يَوْمِ الْفَتْحِ وَناشِرُ رايَةِ الْهُدى، أيْنَ مُؤَلِّفُ شَمْلِ الصَّلاحِ وَالرِّضا، أيْنَ الطّالِبُ بِذُحُولِ الاْنْبِياءِ وَاَبْناءِ الاْنْبِياءِ، أيْنَ الطّالِبُ بِدَمِ الْمَقْتُولِ بِكَرْبَلاءَ، أيْنَ الْمَنْصُورُ عَلى مَنِ اعْتَدى عَلَيْهِ وَافْتَرى، أيْنَ الْمُضْطَرُّ الَّذي يُجابُ اِذا دَعا، أيْنَ صَدْرُ الْخَلائِقِ ذُو الْبِرِّ وَالتَّقْوى".[5]
حين قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا، فَمَنْ أَرَادَ الْعِلْمَ فَلْيَأْتِ الْبَاب"،[6] لم يكن في موقع تمجيد الإمام علي بن أبي طالب ومدحه بقدر ما كان يريدنا أن نعلم أنّ الوصول إلى العلم الحقيقيّ لن يكون إلا بواسطة هذا الإمام.
وإذا كان أحد أهداف الصيام في شهر رمضان هو لتعظيم هذا الشهر وإدراك ليلة قدره، فإنّنا قد عرفنا كيف نحقّق ذلك. لأنّ فاتح هذه الليلة ـ أي فاتح أبواب السماء فيها ـ هو هذا الإمام؛ وما لم نتّصل بحبله، فلن يكون لنا توفيق نيل بركاتها الحقيقية. وإذا حصل أن نال أحد بركة أو خير بغير هذا السبيل فلن يكون لسعادته وكماله الواقعيّ.
فإذا جعلنا الاتّصال بالإمام وإعانته غاية صيامنا، نكون قد فهمنا المغزى الواقعيّ لتشريع الصوم. ففي الصيام إعداد واستعداد، لكنّه إعدادٌ واعٍ وهادفٌ بالنسبة لمن فهم تلك الحقيقة. ويبدأ هذا الإعداد بتواجدنا في بيئة شهر رمضان المميّزة ورعاية حرمته وتعظيم قدره ممّا يجنّبنا الكثير من المعاصي الموبقة والآثام المضعفة، وينقلنا إلى مقام القوّة في ضبط الشهوات وتفعيل قوى النفس.
فلا شيء يعين الإمام على ليلة القدر إلا تلك القوّة الربّانية التي تحصل في ظلّ تقوى الله.
{يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون}.[7]
ـــــــــــــ
[1]. مفاتيح الجنان، الزيارة الجامعة الكبيرة.
[2]. مفاتيح الجنان، تعقيبات شهر رمضان المبارك.
[3]. الكافي، ج١، ص ٥٣٢-٥٣٣.
[4]. الكافي، ج١، ص ٢٤٨.
[5]. مفاتيح الجنان، دعاء الندبة.
[6]. صحيفة الإمام الرضا(ع)، ص ٥٨.
[7]. سورة البقرة، الآية ١٨٣.
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد عباس نور الدين
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الشّيخ صالح آل إبراهيم: ميثاقنا الزّوجي
اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا
المادة على ضوء الفيزياء
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (أبيض وأسود) بنسخته الثّالثة
القرآن وجاذبيّته العامة
القرآن الكريم وأمراض الوراثة
اعتبار الإسلام لرابطة الفرد والمجتمع
لا يدرك الخير إلّا بالجدّ
الوصول إلى حالة الانغماس وقياس مستواها
هل يمكن إثبات المعجزة علميًّا؟ (2)