مقالات

التّوبة، معناها، شروطُها، وأوصافها

 

السّيّد علي خان
التّوبة لغةً: الرُّجوع، واصطلاحاً: النّدمُ على الذَّنب لِقُبحِه، وبيان المناسبة بين المعنيَين: أنّ الله سبحانه هو الّذي ابتدأ بالنّعمة على العبدِ قبل الاستحقاق، وفَطَرَ العبدَ على طاعته في الابتداء، فإذا ندمَ العبدُ على إساءةٍ بَدَرت منه، فقد رَجعَ إلى الله في ما كانت فطرتُه عليه، ورَجعَ اللهُ له إلى ما كان من إحسانه إليه، فسُمّي النّدمُ إذا كان تلافياً للعقابِ «توبة».
وإنّما قلنا: فَطَر العبدَ على طاعتِه، لأنّ الذَّنْب بمنزلة المرض العارِض في النّفس، والتّوبة بمنزلة معالجتها حتّى تعود إلى صحّتها، فكما أنّ الغالب على أصل الأَمزجة في الأنفُس هو الصّحّة، وإنّما يعرضُ المرضُ بأسبابٍ مُغيِّرة وعِلَلٍ مؤذية، فكذلك كلُّ إنسانٍ يولَدُ على الفطرة ويُدرِك وينشأ على الصّلاح والرّشد، والله أعلم.
 

علمُ وحالٌ وعملٌ
قال بعضُ العلماء: التّوبة تنتظمُ من أمورٍ ثلاثة: علمٌ وحالٌ وعملٌ.
أمّا العلمُ فهو اليقين بأنّ الذُّنوب سمومٌ مُهلكةٌ وحجابٌ بين العبدِ ومحبوبه، وهذا اليقينُ يُثمرُ حالةً ثانيةً هي التألُّم لِفَوات المطلوب والتّأسُّف من فعل الذُّنوب، ويُعبَّر عن هذا الحالة بالنّدم، وهي تُثمرُ حالةً ثالثةً هي ترك الذُّنوب في الحال، والعزم على عدم العَوْد إليها في الاستقبال، وتدارُك ما في الماضي من حقوق الله تعالى، مثل الصّلاة والّصيام والزّكاة ونحوها، ومن حقوق النّاس، مثل ردّ المال إلى صاحبِه أو وارثِه، وطلب الإبراء في الغِيبَة، وتسليم النّفس في القصاص إلى وليّه ليقتصّ منه أو ليَعفو عنه، ولو لم يُمكنهُ ذلك كان عليه أنْ يُكثرَ من العبادة، ليَبقى له قدرُ الكفاية [من العبادات] في القيامة بعد أخذ حقوقِهم منها.
وهذه الأمور مترتّبةٌ في الحصول، ويُطلَقُ اسمُ التّوبة تارةً على مجموعها، وطوراً على النّدم وحده؛ ويجعل العِلم كالمقدّمة والتّرك كالثّمرة، فيكون النّدمُ محفوفاً بالطّرفين، الطّرف الأوّل مُثمِرُ النّدم، والطَّرفُ الآخَر ثَمرتُه، كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «إنَّ النّدمَ على الشّرِّ يَدعو إلى تَركِه»، وترتُّب هذه الأمور غير مختصٍّ بالتّوبة، بل انتظام الصّبر والشّكر والتّوكّل والرّضا وغير ذلك من المقامات الدّينيّة يَنتظم من علمٍ وحالٍ وعمل.
 

شروطُ التّوبة وأوصافُها
قال بعضهم: للتّوبة شروطٌ وأوصافٌ:
أمّا شروطها فأربعة: النّدمُ على ما سلَف، وتركُ مثل ذلك في الحال، والعزمُ على أنّ لا يعود في الاستقبال، ونَصْبُ الذّنْب أمامَه بحيث لا يَنبذُ النّدَم وراءَ ظهره ولا ينسى إساءتَه طول عمره.
وأمّا أوصافها المُتمِّمة فأربعة أيضاً: انتباهُ القلب عن رَقدة الغفلة، والإصغاءُ إلى ما يَهجس في الخاطر من الصَّوارف والزَّواجِر، وهجرانُ أخدان السُّوء وأصحابِ الشّرّ، وملازمة إخوان الخير استضاءةً بأنوارهم..
وعن أمير المؤمنين صلوات الله عليه: أنّ التّوبة يجمعُها ستّةُ أشياءٍ: على الماضي من الذّنوب النّدامة، وللفرائضِ الإعادة، وردّ المظالِم واستِحلال الخصوم، وأنْ تعزمَ على أنْ لا تعود، وأنْ تُذيبَ نفسَك في طاعة الله كما ربَّيتَها في المعصيَة، وأنْ تُذيقَها مرارةَ الطّاعات كما أذقْتَها حلاوةَ المعاصي.
قال شيخُنا [بهاء الدّين العامليّ] قدّس سرّه: لا رَيب في وجوبِ التّوبة على الفور، فإنّ الذّنوب بمنزلة السّموم المُضرّة بالبدن، وكما يجب على شارب السُّمّ المبادرة إلى الاستفراغ تلافياً لِبَدَنه المُشرفِ على الهلاك، كذلك يجبُ على صاحب الذّنوب المبادرة إلى تَرْكِها والتّوبة منها، تلافياً لِدِينه المُشرفِ على الاضمحلال.
قال: ولا خلافَ في أصل وجوبها سمعاً، للأمر الصَّريح بها في القرآن، والوعيدِ الحَتْم على تَرْكِها فيه، قال تعالى: ﴿يا ايُّها الَّذينَ آمَنُوا تُوبُوا إلى الله تَوْبَةً نَصُوحا..﴾ التحريم:8، وقال: ﴿..ومَنْ لَم يتُبْ فأولَئكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ الحجرات:11.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد