يُطرَحُ هذا السؤال دائِمًا: أيُّهُما أفضَل، الكلام أم السُّكوت؟ ولكننا لا نَستَطِيعُ القولِ بأنَّ الكلامَ أفضَلُ من السُّكوت أو العكس؛ وسيأتي كلامُ الإمامِ زين العابدين عليه السلام بشأنِ هذا المَوضوع. ولكنَّنا نعرِفُ بأنَّهُ في بعضِ الأحيانِ، يَكونُ السُّكوتُ أفضَلَ من الكلامِ؛ فمثلاً، الشخصُ الذي يَسكُتُ عن الغِيبَةِ يَحتَرَمُ أعراض الناسِ، ويَكونُ أفضَلَ من الشخصِ الذي يتحدَّثُ في الغِيبَةِ. وهذا السُّكوتُ يَملُكُ قيمَةً وكرامَةً.
وأنا، ليسَ لديَّ علاقةٌ بالناسِ ولا شغلٌ بأمورِهِم. في هذه الحالةِ، السُّكوتُ أفضَلُ بكثيرٍ من الكلام؛ فعلى سبيلِ المثال، السُّكوتُ عن الفُضُولِ يَعني عدمَ التدخُّلِ فيما لا يَعنيكَ، فلماذا تتسائلُ عن أحدٍ يزورُ شخصًا ما؟ لماذا يزوره وهما في الأصل لا يتزاوران؟ ماذا علاقتُكَ بذلكَ؟ ليسَ لكَ شَغْلٌ بأمورٍ لا تعودُ بالخيرِ عليك، فلماذا تُبالِغُ في الفضولِ؟ وفي الواقع، السُّكوتُ أفضَلُ بكثيرٍ من الكلام في هذه الحالة.
موضوع مثلاً يُطرح بين طبقة خاصة، فلا داعي لكَ أن تتدخل وتتقحم في قضيةٍ علميةٍ لست من أهل العلم. فإذا كانت هناك جماعةٌ يتبادلون الآراءَ حول موضوعٍ معيّنٍ، فمن الأفضل لكَ السكوت في هذه الحالة. فالسكوت هو الخيارُ الأنسب، لأن التدخل في هذه القضايا يمكن أن يؤدي بكَ إلى الانهيار ويُكشِف عن عدم وجودِ ما يميزكَ، بينما السكوتُ يبقيكَ في مأمنٍ من الكلام الفارغ.
لا أعلم إذا كان هناك رواية يُحكى عنها من قبل المفسرين، ولا أدري مدى صحتها. يُقال أن النبي موسى عليه السلام كان يجلس في مجلسه رجل يبدو في الظاهر كرجل محترم ومؤثر، فمظهره الخارجي ولحيته وهيئته كلها كانت مثيرة للاهتمام، وكان هذا الرجل يرافق موسى عليه السلام دائماً ولكنه كان صامتًا ولا يتحدث على الإطلاق. في يوم ما، مرا موسى والرجل على أرض معشبة بها عشب عالي وغدير ماء، وشعر الرجل بالحزن الشديد والتحسر، فسأله موسى عن سبب حزنه، فقال الرجل: "أحزن لأنني أرى هذا العشب الجميل سيذهب سدى دون فائدة، لقد تمنيت لو كان لربي حمارٌ حتى يأكل من هذا العشب". عندها، انفعل موسى عليه السلام وأصيب بالألم والحزن، لكنه لم يتحدث، فأوحى الله إليه بأنه سوف يحاسب الناس على قدر عقولهم، وعلى مواعظهم وأفكارهم، وليس على قدراتهم أو غيرها من الأشياء التي لا يمكن للإنسان أن يتحكم فيها.
قال له: هذا هو مستوى ادراكه، وأنه لا يترقى إلى مستوى أعلى. وفي الحقيقة، لو كان ساكتًا لكان حظي بالاحترام، حيث يحترمه الآخرون لأنه لم يتحدث لفترة طويلة، وبالتالي، ما قاله الآن هو ما يجب عليه أن يقول. وفي الحقيقة، في بعض الحالات، السكوت أفضل من الكلام، وفي حالات أخرى، الكلام أفضل من السكوت. على سبيل المثال، إذا كان شخص ما يتحدث بالباطل أو يتحدث بالنميمة أو الكذب، فإن ذلك يعد جريمة. وفي بعض الأحيان، السكوت يكون جريمة، وذلك إذا كان الشخص يعرف الحقيقة ولكنه يخشى أن يتعرض للضرر إذا تحدث عنها. ولذلك، يقول المثل "الساكت عن الحق شيطان أخرس". إذا كان الشخص يعرف الحقيقة ولم يتحدث عنها، فإن ذلك يعد رذيلة وليس فضيلة. وعندما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"، فهو يقصد أن الشخص يجب أن يتحدث بالحقيقة إذا شاهد انحرافًا، ولكن يجب أن يكون على دراية بالمسؤولية التي يتحملها عندما يتحدث.
السكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نعم لأن الكلمة أحياناً قد تأخذ أثرًا، الكلمة هنا تلعب دورها بما لا يحمل شكًا، فأحياناً الكلام أفضل من السكوت والسكوت أفضل من الكلام والعكس بالعكس.
وهنا سألوا الإمام علي بن الحسين عليه السلام، قالوا له: أيهما أفضل الكلام أم السكوت؟ ، قال: " لكل واحد منهما آفات، فإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت، قيل: كيف ذلك يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: لان الله عز وجل ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت، إنما بعثهم بالكلام، ولا استحقت الجنة بالسكوت، ولا استوجبت ولاية الله بالسكوت، ولا توقيت النار بالسكوت، إنما ذلك كله بالكلام، ما كنت لأعدل القمر بالشمس، إنك تصف فضل السكوت بالكلام ولست تصف فضل الكلام بالسكوت "، في الواقع هذه الجملة على وجازتها، إلا أن الإمام سلام الله عليه جاء وأعطى هذين الأمرين تحديد رائع، فعلاً يقول هذا الكلام له آفات ومشاكل كالتي ذكرناها، والسكوت له مشاكل، وهذا له محاسن وذاك له محاسن، ولكن إذا جردناهما من الآفات، يكون الكلام أفضل. لأن الله لم يبعث الأنبياء ليقول لهم "اذهبوا واسكتوا".
والدعاء هو كلام ووسيلة للدعاء إلى الله. ولا يمكن الوصول إلى ولاية الله إلا بالكلام. فأنت في الإسلام تصلي وتتكلم وتقرأ القرآن وتقول كلمات طيبة بالكلام.
وفي الوقت نفسه، الكلام هو الذي يصف به السكوت. عندما يقول لك أحدهم "ما هو السكوت؟"، يمكنك الإجابة مثلاً بـ "إغلاق الشفتين وعدم التحدث". ولكن هل يمكنك وصف الكلام بالسكوت؟ إذا سألك أحدهم "ما هو الكلام؟" وأنت تعرف معناه، بالطبع لا يمكنك ذلك. النطق هو ثمرة عقل الإنسان، وهو الوسيلة التي يستخدمها الإنسان للتواصل والتعبير عن أفكاره ومشاعره. بلا شك، إذا كان النطق خالٍ من الآفات، فإن الكلام يكون أفضل من السكوت. فالكتب والجامعات والقرآن الكريم وغيرها من الإنجازات والعطاءات كلها تعتمد على الكلام كمصدر للمعرفة والتوجيه للإنسان.
ولكن المراد من الكلام والسكوت، أن يتماشيا وفقاً لمعايير معينة. فالكلام يجب أن يكون وفق معيار يشير إلى أن الشخص المتحدث يشعر بالمسؤولية تجاه الكلمة التي ينطق بها. فعندما يتحدث الشخص بشيء ما، يجب أن يشعر بالمسؤولية تجاه تلك الكلمة، وأن لا يتحدث عن أي شيء فقط لأنه يخطر في باله، فالشخص يجب أن يفكر جيداً قبل أن ينطق بالكلمة. وكما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: "إذا تم العقل نقص الكلام"، يعني أن العقل السليم لا يتحدث بدون دراسة وتأمل فيما سوف يقوله، ويحاول معرفة ما هي الآثار والتبعات المرجوة والمتوقعة لتلك الكلمة. ولذلك فإن الشخص الذي يتحدث قليلاً ويفكر جيداً قبل أن يتحدث، هو الشخص الذي يتمتع بالحكمة، ولا يقول الشيء إلا بعدما يتأكد من صحته ودقته. أما الشخص الذي يتحدث بكلمات فارغة ولا يشعر بالمسؤولية تجاهها، فإنه يخاطر بالتسبب في أضرار، ويجب عليه أن يتحمل عواقب تلك الأضرار.
*بتحرير وتصرف من إحدى محاضرات الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان