الليلة الثامنة - محرم 1446 هـ
الشيخ إسماعيل المشاجرة
الفردانية وأثرها على الهوية الجمعية
مجمع أهل البيت (ع) - عمان (مسقط) -
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قوله جل وعلا في محكم كتابه: "الم * وزكريا إذ نادى ربه: ربِّ لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين" آمنا بالله، صدق الله وصدق النبي الكريم صلى الله عليه وآله.
في هذه الآية المباركة، يطلب زكريا عليه السلام من الله سبحانه وتعالى أن لا يذره فرداً، وهذا ما تقتضيه الجبلة الإنسانية، أن الإنسان لا يقبل أن يعيش حالة العزلة والوحدانية والفردانية، بل يميل إلى أن يبقى له وجوده واجتماعه مع الآخرين. الملفت للنظر في هذه الآية المباركة أن زكريا يطلب بقاء لحمته واتصاله الاجتماعي بالناس بعد موته؛ لأن هذه الآية المباركة واردة في طلب زكريا الولد لكي يكون وارثاً له. والقرينة على ذلك أنه قال: "وأنت خير الوارثين" يعني يريد ولداً، والغرض من هذا الولد أن يكون وارثاً له. فكأنما زكريا عليه السلام لا يريد أن ينقطع انتماؤه والتحامه بالمجتمع حتى بعد موته، وهذا أمر طبيعي لأن جبلة الإنسان وفطرته تدعوه إلى الالتحام بالناس والاختلاط بالناس. كما يقول علماء الاجتماع: الإنسان اجتماعي بطبعه، وهذه قضية واضحة لكل إنسان. ويشعر في داخله أن جبلته وفطرته تدعوه إلى الخلطة والاجتماع بالآخرين.
ولذلك سيرة المجتمع الإنساني منذ أن وجد، سيرة اجتماعية قائمة على الالتحام، قائمة على الاختلاط، قائمة على تشكيل التجمعات. وهذا ما يدعونا إلى الحديث عن ظاهرة بدأت تتفشى في العقود المتأخرة، تعرف بظاهرة الفردانية. هذه الظاهرة باتت اليوم تتسرب إلى ثقافتنا الاجتماعية وتؤثر على السلوك الجمعي عند كثير من الأفراد. فتحت عنوان الفردانية وتأثيرها على الهوية الجمعية، نتحدث عن هذا الموضوع، عن هذه الظاهرة ضمن ثلاثة محاور.
المحور الأول نتعرف على المقصود من الفردانية، ما هو تعريفها وما هي أهم سماتها.
المحور الثاني نتحدث عن مخاطر الانزلاق في الفردانية، وحجج الفردانيين؛ يعني من يدعو إلى الفردانية، ما هي حجته؟
المحور الثالث نتعرف بشكل موجز على النظرة والرؤية القرآنية حول هذه الظاهرة.
تعالوا إلى المحور الأول، ما هو المقصود من الفردانية؟ تعرف بعض كتب علم الاجتماع الفردانية بأنها ظاهرة تستوجب جعل الفرد ركيزة أساسية في المجتمع، بمعنى أن الفردانية تعني إهمال الصورة الجمعية والتركيز على الصورة الفردية. يعني ما تدعو إليه في هذا المصطلح وما يتضمنه هذا المفهوم أنك ينبغي أن تهمل الصورة الجمعية وتركز على الصورة الفردية.
ومن أهم سماتها الدعوة إلى الاستقلالية والحرية الشخصية وبناء الذات. إذًا، فمفهوم الفردانية يعني أن نجعل نظرتنا للحياة الاجتماعية نظرة قائمة على التركيز على الفرد وإهمال المجموع. ومن أهم ما يتضمنه هذا المفهوم ثلاث سمات: التركيز على الحالة الاستقلالية، التركيز على الحرية الشخصية، التركيز على بناء الذات.هذا تعريف أولي لمفهوم الفردانية.
تعريف آخر أيضًا تذكره بعض المعاجم المهتمة بالمصطلحات الاجتماعية، حيث تقول إن الفردانية هي في الحقيقة منهج منحدر عن فلسفة، يعني ليست المسألة مسألة مفردة في علم الاجتماع، بل القضية تتبع رؤية وفلسفة نظر لها الفلاسفة. يعتبرون الفردانية مذهبًا من مذاهب الفلسفة الوجودية، فإذاً القضية أعمق من أنها مجرد ظاهرة اجتماعية، وإنما هي تكشف عن رؤية وأيديولوجية ينطلق منها بعض المنظرين وبعض الفلاسفة.
ما يلفت إليه بعض من كتب حول الفردانية، عالم اجتماع فرنسي اسمه جيل لوبوفسكي وهو من أهم من كتبوا حول هذه الظاهرة، من مواليد ١٩٤٤م، لا يزال معاصرًا عمره 80 سنة، أستاذ جامعي وفيلسوف وعالم اجتماع فرنسي، يظهر أنه من أصول أوروبية شرقية. له كتاب اسمه "الفردانية المعاصرة وتحولات ما بعد الحداثة"، من أهم الجوانب التي أشار إليها في هذا الكتاب جانبان اثنان، نريد أن نستحضرهما من هذا المؤلف المهم. الجانب الأول تحدث فيه عن الأسباب التي دعت إلى تفشي ظاهرة الفردانية. يعتبر ظاهرة الفردانية من أهم الظواهر ومن أهم المذاهب الفلسفية التي استشرت في عصر ما بعد الحداثة، يعني يعتبرها من المعالم التي تعطي سمات عصر ما بعد الحداثة "ظاهرة الفردانية".
فهو يعتبرها مؤشرًا من مؤشرات ما يعيشه المجتمع اليوم على المستوى الفلسفي والاجتماعي في عصر ما بعد الحداثة. في هذا الكتاب الذي كتبه عام 1983 وترجم إلى العربية سنة 2018، يذكر أن الأسباب التي دعت إلى تفشي ظاهرة الفردانية يمكن حصرها في ثلاثة أسباب:
السبب الأول: حالة التفكك الأسري الذي عاشه المجتمع الغربي في العقود، بل في القرن الأخير. هو يقول إن التفكك الأسري يعني أن كل فرد يهتم بشأنه الخاص، وهذا من الطبيعي، ما دامت اللحمة الاجتماعية تفككت، أن يصبح مركز اهتمام الإنسان هو ذاته.
يقول إن واحدة من أهم الأسباب التي آل بها المجتمع الغربي إلى تفشي ظاهرة الفردانية هو تفكك الأسرة.
السبب الثاني: يقول المجتمع في القرن الأخير هو مجتمع إعلامي بامتياز. التفتوا إلى هذه النقطة المهمة لأنها ستوقفنا على دور وسائل التواصل الاجتماعي بل للإعلام بشكل عام في زيادة تفشي هذه الظاهرة. يقول المجتمع الغربي المعاصر مجتمع إعلامي، يعني يتحكم فيه الإعلام بشكل كبير. يقول والمجتمع الإعلامي بطبعه، ما دام الإعلام له دور مؤثر في ثقافة الناس وسلوك الناس، فمن الطبيعي أن يصبح الفرد باحثًا عن الشهرة. ما دام هناك إعلام، أريد أن أتصدر في هذا الإعلام، فأبحث عن الشهرة. البحث عن الشهرة يعني التركيز على الذات، التركيز على الشخصنة، التركيز على الفردانية وإهمال الحالة الاجتماعية. لأن من يريد أن يبرز ومن يريد أن يشتهر يركز على نفسه فقط. يقول لأن المجتمع الغربي مجتمع إعلامي تسببت هذه الحالة وهذه الصبغة الإعلامية الموجودة في المجتمع الغربي في تعزيز حالة الفردانية، لأن الفرد أصبح يبحث عن الشهرة.
ولأن في الإعلام أيضًا لازمًا آخر سلبيًّا جدًّا وهو ما يعبر عنه بالعدوى الاجتماعية، فالإعلام ما دام يتحدث عن الأفراد، فطبيعة الناس أنهم إذا رأوا فردًا يريدون أن يقلدوه، يريدون أن يحاكوه. يقول ولذلك إذا سوّق الإعلام لظاهرة الفردانية فمن الطبيعي أن تتفشى هذه الظاهرة في أفراد كثر وتنتقل إلى مجتمعات كثر. إذًا السبب الثاني الذي يعزى إليه تفشي ظاهرة الفردانية هو الحالة الإعلامية المسيطرة والصبغة الإعلامية المسيطرة على المجتمع الغربي.
السبب الثالث: وهو أهم سبب في نظره الشخصي، يقول من أهم أسباب تفشي ظاهرة الفردانية سحق المثل الأعلى. التفتوا لهذه القضية المهمة، يقول المجتمع الذي يقدم نموذجًا أعلى، يقدم أسوة يتأسى بها الناس، فهذا المجتمع مجتمع تحكمه الأعراف وتحكمه الأسس الاجتماعية لأنه يقدم نموذجًا. يقول هذا الفرد مثل أعلى ينبغي التأسي به، مما يعني أن هذا المجتمع عنده مبادئ، عنده أسس، على أساسها يقيم الشخصيات ويقدم فردًا على أنه نموذج أعلى.
أما المجتمع الذي تسحق فيه المثل العليا، يعني لا يقدم فردًا على أنه مثل أعلى، فهنا تتفتت الأفراد ويصبح كل فرد يرى نفسه مثلًا أعلى، وهنا تتعزز الحالة الفردانية. فكل واحد يقدم نفسه على أنه مثل أعلى لأن المجتمع لا يقدم له مثلًا أعلى.
وفي الحقيقة حينما نحلل هذا السبب، يريد جي لوفيسكي أن يقول إن المجتمع الذي تنسحب منه الحالة الدينية لأن الحالة الدينية بطبيعتها قائمة على تقديم أسوات، تقديم قدوات، تقديم نماذج من الدين يمثلون حسنًا. فالدين بطبعه قائم على تقديم النموذج، قائم على تقديم المثل الأعلى. فالمجتمع الذي ينحسر فيه الدين، تلقائيًّا تنحسر فيه المثل العليا. وهذا من أهم الأسباب أيضًا التي دعت إلى تفشي هذه الظاهرة.
تعال أعطنا مؤشرات يمكن من خلالها تحسس وجس مؤشر الفردانية في المجتمعات أو في الأفراد. وهذا الجانب الثاني الذي ننقله من هذا الكتاب، يعطي مؤشرات جدًّا مهمة.
طبعًا هي ليست مؤشرات مضطردة بحيث لا يسعنا أن نتهم أي فرد تنطبق عليه، واحدة من هذه المؤشرات أنه يعيش الحالة الفردانية، لكنه يقول مما يتكرر مع الأشخاص الذين يعيشون هذه المنهجية، وهذه المؤشرات وهذه العلامات. يقول من أهم مؤشرات الفردانية ما يلي: ركزوا على هذه المؤشرات وحاولوا أن تتحسسوا هل هي موجودة في مجتمعاتنا؟ ما هي نسبة وجودها؟ وهل هناك أفراد يركزون على هذه الحالة؟ وهل يمكن تصوير هؤلاء الأفراد الذين يركزون على هذه الأمور بأنهم بدأت تتسرب إلى قناعتهم ظاهرة الفردانية وتتعزز عندهم حالة الشخصنة وحالة التفرد؟
إذًا فهنا مؤشرات يطرحها هذا المختص، يقول من أهم المؤشرات أن من يعيش حالة الفردانية يضع جدارًا عازلًا بين الذات وبين اللحظة التي يعيشها. كيف؟ يعني يؤكد على مسألة أن تعيش اللحظة، أن تعيش المتعة. لا تفكر فيما مضى ولا تفكر فيما سيأتي. المهم هو ذاتك، المهم أن تعيش اللحظة التي تستمتع فيها ذاتك بها. وهذا في الحقيقة اليوم ما نسمعه عند كثير ممن يتأثرون بهذه الثقافة: لا تهتمّ بالذي يجري، المهم أن تستمتع، المهم أن تعيش اللحظة، لا تفكر في غد، ولا تفكر فيما مضى، فكر في الحالة وفي الساعة التي أنت فيها. وهذا في الحقيقة مؤشر من مؤشرات أن هذا الشخص بدأت تتعزز عنده حالة الفردانية بحيث بدأ لا يهمه إلا أن يعزز ذاته ويعزز سعادته الآنية وقد تكون سعادة موهومة. هذا مؤشر أول.
المؤشر الثاني، يقول من مؤشرات حالة الفردانية أن الفرد يركز على لذائذ جسده لأنه يرى الجسد هو الوعاء الذي من خلاله يشبع ذاته. فيركز على اللذائذ الجسدية. يقول ولذلك شاعت في الأفراد النرجسيين، طبعًا من يعبر عنهم بالنرجسيين، يعني تضخمت عندهم الحالة الفردانية وحالة الأنا. يقول ولذلك الشائع عند النرجسيين أنهم يركزون على كل ما من شأنه أن يعزز الحالة الجسدية، نظام صحي مدروس بدقة، رياضة، تعزيز الحالة الغرائزية. يقول هذه الأمور إذا بالغ وأفرط فيها الفرد، فهو قد بدأ يتجه إلى حالة الفردانية. هذا مؤشر من المؤشرات، قد تتفق معه وقد تختلف معه، لكنه يطرح هذا المؤشر من منطلق تخصصه.
المؤشر الثالث، يقول أيضًا من مؤشرات حالة الفردانية أن الأفراد الذين يعيشون هذه الظاهرة يركزون على عدم الحاجة للآخرين. لا تتسول شيئًا من الآخرين، اعتمد على نفسك بنفسك، اسند نفسك بنفسك، أحبّ نفسك بنفسك. وهذا أيضًا نسمعها اليوم عند كثير من أبنائنا، خصوصًا الجيل القادم، يركز على هذه الحالة، حالة الاستغناء عن الآخرين. والحال أن الإنسان كما قلنا اجتماعي بطبعه، لا يمكن أن يعيش بمعزل عن الآخرين. الثقافة القرآنية تؤكد على أن الله سبحانه وتعالى خلق المجتمع مترابطًا، جعل الناس سخريًا، بعضهم يعين بعض. سخر بعضهم لخدمة بعض. لكن الفردانية تؤكد على حالة الاستغناء عن الآخرين. إذا هذا مؤشر ثالث.
المؤشر الرابع، يعتبره أيضًا امتدادًا لقضية التركيز على الحالة الجسدية، يقول وهذه الحالة تشيع عند النساء اللاتي يبتلين بالحالة الفردانية: التركيز على جمال الجسد. يقول ومن هنا، تشيع عند الفتيات اللاتي عشن حالة الفردانية بشكل مبالغ ومفرط فيه، يشيع عندهن المبالغة فيها والإفراط فيها. يقول هذا كله مؤشر على تنامي الحالة الفردانية عند الفتاة.
نعم، أعود لأؤكد أن هذه السمات وهذه المؤشرات ليست مضطردة بمعنى أنه لا يسع الفرد بمجرد أن يرى سلوكًا عند إنسان يتجه في هذا الاتجاه رأسًا أن يتهمه بأنه يعيش حالة الفردانية. وإنما هذه مؤشرات قد تكشف مستوى هذه الظاهرة عند فرد أو عند آخر.
المؤشر الخامس، يقول: سمة اللامبالاة بالآخرين. يعني لا يهمه إلا ذاته، لا يهمه إلا نفسه، وهذه حقيقة الفردانية. حقيقة الفردانية كما أشرنا في تعريفها: الاهتمام بالفعل باعتباره هو الركيزة. فهذا مؤشر تلقائي وطبيعي.
المؤشر السادس، يقول: إن من مؤشرات الفردانية التي أيضًا تؤكد وتعزز هذه الحالة أن الفرد الذي يعيش حالة الفردانية يريد أن يبدي رأيه في كل شيء. لماذا؟ لأنه يرى نفسه محورًا لكل الرؤى ولكل النظريات ولكل الأفكار. فدائمًا يبدأ بمن يعيش حالة الفردانية على أن يعطي رأيًا في كل شيء، سواء عنده تخصص، عنده اطلاع، عنده وعي لهذه القضية أم لا. لكن لأنه يرى ضرورة أن يحضر نفسه في كل شيء. لذلك، يصر على هذا المعنى.
المؤشر السابع والأخير، أنه لا يبالي بأن هذا الرأي الذي يطرحه ويقدم من خلاله نفسه، قبله المجتمع أو لم يقبل. ولذلك يقول يشيع عند من يعيشون حالة الفردانية حب التمرد، حب الشعور بأنهم غير الآخرين، حب الشعور بأن يقدموا أنفسهم على أنهم أفراد متميزون، مختلفون عن غيرهم. إذًا هذه أهم المؤشرات التي يعطيها لنا هذا العالم الاجتماعي حول ظاهرة الفردانية.
من بعد هذا المحور الذي عرفنا من خلاله المقصود بمفهوم الفردانية وأهم سمات هذا المفهوم، وتلمّسنا من خلال هذا المحور ماذا نعني بالفردانية. يعني نعني بالفردانية بشكل مبسط ومختصر لمن فاته هذا التنظير الذي ذكرناه على طول المحور الأول، أن يعيش الفرد حالة المبالغة والاهتمام بنفسه على حساب الآخرين. هل فعلًا هذه الظاهرة موجودة في مجتمعاتنا؟ احتككت في يوم من الأيام بأفراد يركزون فقط على رغباتهم، على شخصياتهم، ولا يبالون بالمجتمع، ولا يديرون بالًا لاهتمامات المجتمع، يعيشون في عزلة عن الآخرين، يعيشون في حالة انفراد عن الآخرين. إذًا هذا ما نعنيه بظاهرة الفردانية.
تعالوا إلى المحور الثاني، ما هي مخاطر هذه الظاهرة؟ يعني إذا كان هناك إنسان يعيش مثل هذه الحالة، يرغب في الانعزال عن الناس، يرغب في التفرد عن الآخرين، يرغب في عدم مخالطة الآخرين. هل هذا النهج في السلوك الاجتماعي، وهذا النهج في القناعات وفي الثقافة التي ترتبط بهذه الظاهرة، هل له سلبيات ومخاطر أم لا؟
في الحقيقة نعم. علماء الاجتماع الذين نقدوا هذه الظاهرة ذكروا عدة مخاطر ومنزلقات قد تكون لها عواقب وخيمة على المجتمع إذا أهمل معالجة هذه الظاهرة. تعالوا نقف مع أهم مخاطر هذه الظاهرة.
الأمر الأول من مخاطر الانزلاق في الفردانية، يقولون: الرغبة في التفرد. هذا طبيعي ما دام هذا الإنسان يركز على ذاته ويركز على شخصه ولا يهمه المجتمع، يهمه أن يكون متفردًا يعني لا يشبهه أحد. وهذه مشكلة تستدعي أن تصدر سلوكيات من الفرد كلها الغرض منها التأكيد على التفرد، التأكيد على أنني لا يشبهني غيري. وهذا يجعل الفرد ينزلق في سلوكيات قد تكون غير مقبولة في المجتمع: تركيز على أن يكون لباسه لباسًا متميزًا، على أن تكون مقتنياته مقتنيات متميزة. ألبس ساعة لا يلبسها غيري، أشتري مجوهرات أو حجر ثمين لا يمكن لغيره أن يشتريه. حتى في أبسط الأمور في لباسه، في تسريحة شعره، في مظهره الخارجي، في شكل سيارته، كل هذه الأمور تكشف عن أن هذا الفرد يريد أن يقدم نفسه على أنه شخص متفرد لا يشبهه غيره.
إذًا الغرق في حالة الرغبة في التفرد قد تكلف الإنسان سلوكيات غير مقبولة اجتماعيًّا: الإسراف، التبذير في اقتناء المقتنيات التي لا طائل من ورائها، كل ذلك من أجل التفرد، التركيز على الماركات، التركيز على الجوانب المرتبطة باللباس، المرتبطة بالمظهر لأجل أن أصبح متفردًا.
أحيانًا الرغبة في التفرد تدعو الفرد إلى أن يمارس سلوكًا شاذًّا، وهو ملتفت في داخله لأن هذا السلوك لا يقبله المجتمع. لكن من أجل أن يتميز في مجتمعه ومن أجل أن يقدم نفسه على أنها شخصية متفردة، لا مانع عنده من أن يمارس سلوكيات يرفضها المجتمع.
إذًا الفردانية من منزلقاتها الخطيرة: الرغبة في التفرد. بل يعلق بعض علماء الاجتماع أنه قد يصل المرض بالإنسان الذي استشرت عنده الفردانية إلى أن يقدم نفسه في أشد حالات المأساة حتى يصبح متفردًا. يعني حتى ولو يقدم نفسه على أنه إنسان مبتلى، إنسان ممتحن، إنسان عنده من الآلام والمحن ما لا يوجد عند الآخرين، في سبيل أن يقدم نفسه على أنه متفرد. يقولون: وهذه الحالة من أخطر حالات الفردانية لأنها قد تجر الإنسان، والعياذ بالله، إلى الانتحار في سبيل أن يقدم نفسه على أنه متفرد. لا مانع عنده أن يدرك المجتمع تفرده ولو بعد موته. ورصدت بعض هذه الحالات من حالات الانتحار أن منشأها الرغبة في التفرد. إذا هذا منزلق خطير.
من المخاطر أيضًا التي ذكرها الدارسون لظاهرة الفردانية، أن ظاهرة الفردانية تجعل الأنا عند الإنسان تتضخم بشكل كبير جدًّا. وهذا أيضًا أمر طبيعي، ما دام يركز على نفسه كفرد ويركز على حب ذاته وإشباع ذاته، فمن الطبيعي أن تتضخم الأنا عنده. أين المشكلة؟ انعكاس هذا التضخم على سلوكياته في المجتمع وتأثير هذه السلوكيات على الآخرين. لاحظ اليوم، انظر نظرة بانورامية على وسائل التواصل الاجتماعي، انظر كم من شبابنا يعيشون مثل هذه الحالة: تضخم الأنا. يريد أن يجعل نفسه محورًا للكل، وبتعبير بعض العلماء، يقول: يجب أن أكون في مركز الصورة، يجب أن ينظر إلي الجميع.
يقول هذا ما يفسر ما نراه على وسائل التواصل الاجتماعي من سلوكيات عند بعض الأفراد، الغرض منها أن يصبح محطّ الأنظار عند الجميع، أن يكون هو (الترند) الذي يتابعه الجميع، أن تتسلط كل الكاميرات على الإنستغرام الذي له، أن تتسلط كل الأعين على اليوتيوب الذي له. يقول هذه حالة من حالات تضخم الأنا: أن يصبح هم هذا الفرد لفت النظر، أن يصبح هم هذا الفرد، أن يصبح هو المحور عند الناس، هو محط النظر عند الناس. بلا شك، ظاهرة خطيرة ومنزلق خطير جدًّا قد يكلف الفرد أثمانًا باهظة، ويكلف المجتمع ثمنًا.
كيف تفسر ما يعبر عنهم اليوم في وسائل التواصل الاجتماعي الذين يروجون للتفاهة؟ المشهور الذي همه أن يلفت النظر بأي سلوك، ولو كان بائسًا، ولو كان سيجعل الآخرين يسخرون منه. المهم أن يلتفت إليه الآخرون. إذًا هذا من منزلقات الفردانية التي هي منزلق خطير كما ترى. ولاحظ كيف تؤثر على سلوك الفرد وتنعكس أيضًا على سلوكيات المجتمع. لأن بالنتيجة، هذا المشهور الذي يسوق لنفسه من خلال تقديم التفاهة، هو يشيع ثقافة التفاهة عند المجتمع، ويتأثر به الأفراد الذين لا يمتلكون وعيًا قادرًا على محاكمة هذه الظاهرة، فينساق الفرد معه، يتصور أن التفاهة مطلب ينشده المجتمع. خصوصًا إذا كان شابًّا صغيرًا لا يمتلك وعيًا حول هذه القضية.
إذًا هذه من مخاطر الفردانية ومن منزلقاتها. أيضًا من مخاطر الفردانية، وهذا سبق الإشارة إليه، اللامبالاة بالمجتمع. يعني لا يهمه المجتمع، ولا تهمه القضايا الكبرى في المجتمع، ولا تهمه الأمة، لا مشكلات عنده، لا قضايا كبرى. وهذا نسمعه اليوم على لسان كثير من شبابنا: " ما لي وللنّاس، أنا لا تعنيني إلا نفسي" لكن صديقك هذا يرتكب منكرات، وأنت قادر على أن تعظه، وأن تغير من سلوكه؟ "كلا! لا تعنيني إلا نفسي". لاحظ اللامبالاة بأقرب الناس إليه. فإذا كان لا يبالي بأقرب أصدقائه أو أقرب إخوته، فهل سيبالي بالمجتمع؟ هل سيبالي بالأمة وشؤون الأمة؟ ونحن في ثقافتنا القرآنية والروائية هناك تأكيد على اللحمة الاجتماعية: "واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا". التأكيد على الاعتصام، التأكيد على الشعور بالمسؤولية، التأكيد على حالة الألفة، حالة اللحمة الاجتماعية. "من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم"، "ومن وصله نداء مسلم، وامسلماه! فلم يجبه فليس بمسلم". إذًا التأكيد على الاهتمام بالشأن الاجتماعي قضية بديهية في أدبياتنا الإسلامية والقرآنية.
لكن هذا الذي يعيش الظاهرة الفردانية، لا يهمه هذا، لا يبالي به. ولذلك لا تجد اليوم مسألة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متفشية في مجتمعاتنا، خصوصًا في الجيل الشاب، هذا الجيل الجديد الذي نشأ على مثل هذه الثقافة. لماذا؟ لأنه كما قلنا، ثقافة الفردانية بدأت تتفشى بين شبابنا. ولذلك نحن نؤكد على ضرورة أن يعزز الإنسان قيامه، انتماءه الديني، هويته الدينية حتى تصبح عنده حصانة ضد هذه الثقافات الوافدة. اليوم هذه الثقافة الوافدة بدأت تسلب منا قضايا كانت في يوم من الأيام من أساسيات.
انحسار ظاهرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واحدة من أهم العوامل التي تسببت في انحسار هذه الفريضة الإسلامية المهمة: الشعور بالحالة الفردانية، أنا لا يهمني إلا نفسي، ما لي وللآخرين.
فإذًا هذه أيضًا من منزلقات ومن الآثار السلبية لظاهرة الفردانية. من الآثار أيضًا الخطيرة أن ظاهرة الفردانية ركبتها موجات لحركات أيضًا خطيرة. سنشير إلى حركتين فقط: الحركة النسوية، يعني في السنوات الأخيرة طرق سمعك المقصود من الحركة النسوية وأثر الحركة النسوية وسلبيات النسوية، خصوصًا النسوية البعيدة عن القيم والبعيدة عن العادات والتقاليد والبعيدة عن القيم الإسلامية. لأن النسوية تصنّف، ولها ألوان ولها أشكال، هناك نسوية إسلامية، تنادي بها بعض الشخصيات التي تقول بأنه يمكن من خلال القيم الإسلامية أن نعزز مفهوم النسوية.
طبعًا، الحفاظ على مصطلح النسوية هذه مغالطة، لا يمكن أن نقرن بين النسوية والإسلام، فنقول عندنا نسوية إسلامية. النسوية كمفهوم يتضمن في باطنه قيمًا أسس لها المجتمع الغربي تتنافى تمامًا مع قيم الإسلام. نعم، تريد أن ترفع شعار تعزيز حقوق المرأة من خلال القيم الإسلامية، تعزيز وجود المرأة من خلال القيم الإسلامية، لا بأس بذلك. لكن أن تصور لنا بأن هناك نسوية إسلامية، هذا ينطوي على مغالطة.
ما أريد أن أقوله: إن الحركة النسوية ركبت موجة الفردانية، يعني أنت إذا ترجع إلى تصريحات رواد الحركة النسوية، تلاحظ دائمًا تعزيز ظاهرة الفردانية. لاحظ مثلًا الفرنسية المعروفة سيمون دي بوفوار، هذه رائدة الحركة النسوية المعاصرة، من ضمن كلماتها المعروفة والمشهورة، كلمات تركز على الظاهرة الفردانية، تركز على أن المرأة يجب أن تعيش حالة الاهتمام بذاتها فقط. لا ينبغي أن تهتمي لشأن زوجك، ولا لشأن عيالك، ولا لشأن أسرتك، بل ولا لشأن مجتمعك. المهم أن تركزي على ذاتك كامرأة.
من العبارات المعروفة عنها، تقول: "كم من السعادة أن ترجع المرأة في المساء ولا ترى أحدًا ينتظرها". هذه دعوة صريحة وواضحة إلى العيش الفرداني، فهي تقول إن من مظاهر السعادة عند المرأة أن لا تكون مسؤولة لا أمام زوج ولا أمام أسرة. إذًا لاحظ النسوية تركز على الحالة الفردانية. من كلماتها أيضًا الشائعة: "أن المرأة لن تحرر ذاتها إلا إذا تحررت من عبودية التناسل". يعني ترى هذه الحالة التي يراها الإسلام حالة مقدسة، "ما بني بناء في الإسلام خير من الزواج"، عبودية.
وبالتالي من مخاطر الحركة النسوية أنها تعزز حالة الفردانية عند المرأة. واليوم نسمع كلمات من النساء، أحيانًا من حيث يشعرن أو لا يشعرن، تتلاقى وتوائم وتنسجم مع مثل هذه الدعوة: "أنا لا يهمني إلا نفسي، أنا تعبت من الاهتمام بشؤون البيت، تعبت من الاهتمام بشؤون الأسرة". الروايات تؤكد أن هذه الشؤون كلها بعين الله تعالى، وأن هذا هو جهادك الذي الله سبحانه وتعالى يعطيك عليه ثواب المجاهدين في سبيل الله. لا، "أنا لا يهمني إلا مصلحتي، لا يهمني إلا سعادتي، إلى متى وأنا أعيش هذه الحالة؟ أريد أن أتفرغ لذاتي، أريد أن أتفرغ لنفسي، أريد أن أتفرغ لرغباتي".
إذًا لاحظتم، خطابٌ وثقافةٌ تتشابه إلى حد كبير مع حالة التركيز على الفردانية، نعم، نحن نقول من حق الإنسان أن يقتطع مساحة يخلو فيها مع ذاته، لكن لا أن ينفصل عن بنيته الاجتماعية، لا أن ينفصل عن مسؤولياته البيتية. وهكذا أيضًا، عندما نأخذ كلمات بعض النسويات العربيات المعروفات مثل نوال السعداوي، نجد أن عباراتها كلها تعزز من خلالها هذه الحالة، حالة الفردانية. تقول في بعض كلماتها: "أنا لن أتنازل عن شيء أريده ولو عشت العمر كله من أجل تحقيقه". حسناً، إلى هنا لا بأس، شيء جيد أن الإنسان يقوّي إرادته. ثم تقول: "أما كل شيء أو لا شيء". يعني المرأة إذا أرادت أن تحقق ذاتها، فيجب أن تبحث عن كل المصالح التي تعود عليها بالنفع ولا تفكر في مصالح الآخرين. وهذا أيضًا يؤول بالنتيجة إلى تعزيز ظاهرة الفردانية.
إذًا فالحركة النسوية ركبت موجة الفردانية وحاولت أن تعززها. ولذلك بدأت تظهر وتطفو على السطح ظواهر تكشف عن أن ثقافة الفردانية بدأت تؤثر على بنية الأسرة في مجتمعاتنا. وهذا أمر واضح اليوم. الإحصاءات في كل المجتمعات الإسلامية، وفي كل المجتمعات العربية، ومجتمعاتنا المحلية. وربما في الليلة القادمة نتعرض بشكل مفصل إلى هذا الأمر. كل الإحصاءات تؤكد على تزايد حالات الطلاق وتناقص حالات الزواج. وهذا مؤشر خطير جدًّا عاشته المجتمعات الغربية قبل 150 سنة، واليوم طفى على السطح في المجتمع الغربي. تفككت الأسرة، بعض المجتمعات الأوروبية اليوم عدد الأسر فيها ضئيل جدًّا. أكثر من 50% في المجتمع البريطاني لا توجد في البيوت أسر.
تصنيف أنا لا أريد أن أخوض في تفاصيله، لكن عرضته في محاضرات سابقة في سنوات ماضية. أن المجتمع الإنجليزي عنده تفكك أسري رهيب، أكثر من 50% من البيوتات في ذلك المجتمع لا توجد فيها أسرة متلاحمة. إذًا المجتمع الغربي اليوم لمس بوضوح حالة التفكك الأسري، والتفكك الأسري يعني التفكك الاجتماعي. نحن اليوم بزيادة حالات الطلاق بشكل متواصل، كل سنة يزيد عدد حالات الطلاق أكثر بكثير من السنوات الماضية، وتتراجع نسب الزواج أيضًا بشكل ملفت.
هذا يكشف عن أن حالة الفردانية بدأت تتعزز. ولذلك بدأنا نسمع اليوم حالات عزوف عن الزواج حتى عند الفتيات. وهذه وإن كانت ظاهرة نادرة، لكنها مؤشر خطر. امرأة تكون في مقتبل العمر ومؤهلة للزواج، ويتقدم لها الآخرون، لكن تعزف عن الزواج، لا لشيء إلا لأنها لا تريد أن تتقيد بالحالة الزوجية. لا تريد أن تدخل في شبكة من العلاقات تقيد حريتها الشخصية.
والطلاق اليوم واحد من أهم العوامل التي لعبت دورًا في تنامي عدد حالاته في السنوات الأخيرة. هذه الظاهرة رغبة المرأة في أن تتحرر، رغبة المرأة في أن تركز على مصالحها، على أهدافها، على طموحاتها، على رغباتها، أن تعيش حرة كما تشاء، تتنقل متى ما شاءت، تسافر متى شاءت، تنام متى شاءت.
هذه مشكلة، لأن الله سبحانه وتعالى يريد منا أن نعمر الأرض من خلال البنية الأسرية. إذا تفككت البنية الأسرية، لا يبقى مجتمع، لا يبقى عمران للأرض. وهذه ثقافة قرآنية واضحة وحاضرة في أذهاننا وفي وعينا، وتعدّ من بديهيات ما ندركه من الرؤية الدينية والرؤية القرآنية. لكن أصبح عندنا تسامح في هذا الجانب.
قد ترى أبًا يشجع ابنه وابنته على هذه الحالة من باب التعاطف ومن باب تلبية رغبات الأفراد، مع أنه يدرك في قرارة نفسه أن هذا منزلق خطير، هذا منزلق يتقاطع مع القناعات الدينية، يتقاطع مع توصيات القرآن الكريم.
إذًا ينبغي للإنسان أن يحاكم مثل هذه القناعات التي بدأت تتسرب إلى ذهنيات أبنائنا وبناتنا، بل وإلى ذهنيات الآباء والأمهات أحيانًا من باب التعاطف مع الأبناء أو من باب تلبية رغبات الأبناء. يجب أن تحاكم كل قناعة وفق الرؤية الدينية وفق رؤية القرآن والعترة الطاهرة يجب أن تجعل هذه القيم مقياسًا تقيس به كل الأفكار الوافدة، لا أن تغفل أو تتغافل عن التعاليم الدينية، انصياعًا لرغبة ابن أو بنت.
إذًا فهذه مسألة غاية في الخطورة. من المخاطر أيضًا التي تترتب على ظاهرة الفردانية، أو من الحركات التي ركبت موجة الفردانية، حركة الجندرية. وهذه موجودة في المجتمعات الغربية بوضوح، ونخشى، والمستجار بالله، أن تتسرب إلى مجتمعاتنا بعد حين.
اليوم أيضًا مما تنادي به الحركة الجندرية في الغرب حالة الفردانية: "إذا أردت أن تتفرد، فيجب أن تتمتع بحريتك الشخصية حتى في تقرير جنسك، حتى في تقرير طبيعتك الذكورية أو الأنثوية".
إذا لاحظوا، الجندرية أيضًا ركبت موجة الفردانية، والحديث يطول في هذا المجال، لكن لا أريد أن أسهب فيه.
تعالوا إلى المحور الأخير. من بعد هذا المرور على ظاهرة الفردانية ووقفنا على بعض مخاطرها، ما هي أهم الحجج التي يتمسك بها من يدعون إلى الفردانية؟ نحن لابد أن نمر أيضًا على بعض هذه الحجج حتى يصبح شبابنا واعين حينما يبتلون.
واحدة مثلًا من الحجج التي يتمسك بها، أن الفردانية والإبداع توأمان. يعني الإنسان الذي يعيش حالة الانخراط في المجموعة ويعيش نفس ثقافة المجموعة، لا يمكن أن يكون مبدعًا. وحتى تصبح مبدعًا يجب أن تنعزل عن السياق الاجتماعي العام، يجب أن يكون لك آراء ومواقف تختلف عن الآخرين، حينها تصبح مبدعًا. لأن المبدعين بطبيعتهم أفراد متميزون، أفراد يختلفون عن غيرهم. كيف نجيب عن هذه الحجة؟
الجواب من عدة جهات. الجهة الأولى، الإبداع الذي ينشده الإنسان هو في النهاية إبداع من ضمن المجموعة. لنقول إنك عزلت نفسك من أجل أن تخلق لنفسك إبداعًا، شئت أم أبيت، أنت بحاجة إلى أن تتقن مهارة التعامل مع المجتمع. فإذا انعزلت رغبة في التفرد ورغبة في الإبداع، ستصطدم غداً في كيفية تسويق إبداعك! كيفية تقديم إبداعك للمجتمع، إذًا فالإبداع الحقيقي هو الإبداع الذي يحظى به الفرد ضمن المجموعة وهنا التحدي، كيف تعيش في مجتمع تحكمه تيارات عامة ونمط عام؟ وتستطيع أن تكون متفرداً ومتميزاً وذا كفاءة ضمنه، والتحدي هنا لا أن تنعزل وتخلق بعيدًا عن الناس من أجل الإبداع. إذًا هذه مغالطة.
ولذلك اليوم، الواعون من علماء تطوير الذات يؤكدون أن الإبداع ينشأ عن الانعزال عن المجتمع وعن الجماعة. ثانياً لو فرضنا أنك بانعزالك قادر على أن تبدع وقادر على أن تصبح متميزًا، فإن هذا الانعزال سيفوت عليك إبداعًا هو من أهم الإبداعات، وهو إبداع التعامل مع الناس، فنون التواصل، مهارات التواصل مع الآخرين، مهارات تحقيق ذاتك في المجتمع.
ولذلك أيضًا بعض الدراسات الاجتماعية تؤكد على أن هؤلاء الأفراد الذين يعيشون حالة من التفرد والتميز بفطنة وذكاء وتميز وموهبة، في غالب الأحيان هؤلاء لا يكونون أذكياء اجتماعيًّا، يعني لا ينجحون في فن التواصل مع الآخرين. لماذا؟ لأنهم يرون أن الحفاظ على إبداعهم يتطلب العزلة. فالإبداع الذي تطلبه أمر مشروع ولا بأس به، ولكن مع المحافظة على إبداع ومهارة التواصل مع الآخرين. وهذا لا يحصل إلا إذا انخرطت ضمن الجماعة وضمن المجتمع. حسناً، هذه حجة من الحجج التي يطرحها دعاة الفردانية تحت عنوان الإبداع.
حجة أخرى، أنهم يقولون بأن المجتمع مجتمع سلبي، مجتمع يقتل المواهب. فالفرد الذي ينخرط في المجتمع لن يحقق ذاته. حتى يحقق ذاته، لابد أن يبتعد عن هذا المجتمع.
هذا هو عين المؤشر الذي سبقت الإشارة إليه في المحور السابق هو اللامبالاة بالمجتمع. يعني أنت في سبيل أن تحقق ذاتك، يجب أن تهمل المجتمع إذا كان المجتمع يمارس سلوكًا سلبيًّا؛ فالنجاح يعني الهروب من المجتمع، النجاح أن تنخرط في إصلاح المجتمع.
أولًا هذه النظرة قائمة على نظرة سلبية وسوداوية للمجتمع، ليس كل المجتمع يحمل هذا الحس المثبط. كثير من المجتمع يحفز أبناءه، يشجع أصحاب الكفاءات. فإذًا هذه النظرة السوداوية تكشف عن حالة سلبية يعيشها هذا الفرد الذي يؤمن بهذا المنهج الفرداني.
الأمر الآخر كما أشرنا، أنه من وظيفتك أن تصلح المجتمع. الهروب من المجتمع ليس هو النجاح، النجاح أن تنخرط في المجتمع وتصلح ما تراه يحتاج إلى إصلاح في المجتمع. إذًا فمن الواضح أن هذه حجج غير ناهضة.
تعالوا إلى الرؤية القرآنية وبها نختم. القرآن الكريم، نحن أكدنا بجملة من الآيات يؤكد القرآن على ضرورة التلاحم، "واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا". الفرقة والانعزال والتشرذم سواء على مستوى طوائف وجماعات أو على مستوى أفراد، هذا مذموم في اللسان القرآني وكذلك في روايات النبي المصطفى صلى الله عليه وآله.
قرأت عليكم جملة أو بعض الروايات التي أكدت على أن الإنسان مطلوب أن يعيش همّ المجتمع: "من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم"، "مثل المسلمين في توادهم وترابطهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
إذا فالتوصيات القرآنية والنبوية واضحة وصريحة في الحفاظ على اللحمة الاجتماعية. بل نجد في كثير من توصيات الشارع المقدس سلوكيات كلها قائمة على التلاحم والترابط. المجتمع الإسلامي هو مجتمع متراحم، كما يعبر عن ذلك بعض المفكرين. يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري: "من أهم القضايا التي أدركتها بوضوح حينما انتقلت إلى أمريكا وعشت مع المجتمع الغربي هو الفارق الكبير بين المجتمع الإسلامي القائم على مبدأ التراحم وبين المجتمع الآخر القائم على مبدأ المصلحة".
إذاً، فمجتمعنا الإسلامي قائم على ثقافة التراحم، وهذه الثقافة لا تتحقق إلا من خلال سلوكيات كثيرة ندب إليها الشارع المقدس. من هذه السلوكيات التأكيد على التعاون مع الآخرين: "وتعاونوا على البر والتقوى"، والتأكيد على قضاء حوائج الآخرين: "من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة"، و"من سعى في قضاء حاجة مؤمن قضى الله حوائجه للدنيا والآخرة".
إذًا، التأكيد هنا هو على تحسس أحوال الآخرين والسعي في مساعدتهم وقضاء حوائجهم.
وهكذا جلّ التوصيات الدينية والتوصيات القرآنية كلها قائمة على إنشاء حالة من الترابط الاجتماعي الوثيق. إذًا فالأصل في الرؤية القرآنية العيش ضمن الجماعة لا العيش ضمن حالة الانفراد والعزلة.
نعم، هناك حالات ندب فيها الشارع المقدس إلى حالة الانفراد والعزلة. ولكن عزلة مؤقتة، نطرح حالتين منها حتى يكون البحث مستوعبًا.
الحالة الأولى إذا ابتلي الإنسان بمحيط فاسد لا يستطيع أن يتعايش معه. نعم، ورد في الروايات: إذا أصبح الإنسان غير قادر على التعايش مع المجتمع بسبب فساد المجتمع، لا بأس. يعني لاحظوا مثلًا الآية المباركة: "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لايضركم من ضل إذا اهتديتم".
هذه حينما يفسرها علماؤنا، يقولون ليس المقصود منها الهروب من المجتمع الذي يعاني من ظواهر فاسدة، لا. وإنما المقصود منها القيام بواجبك التام. فإذا استنفدت الوسع والطاقة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاولات إصلاح المجتمع بكل ما تستطيع، حينئذ لا يضرك من ضل إذا اهتديت.
أما من البداية يهرب الإنسان وينعزل تحت عنوان أنني والله لا يهمني إلا نفسي، لا. هذا مبدأ غير قرآني وغير إسلامي، إذًا واحدة من الظواهر التي يضطر فيها الإنسان إلى حالة العزلة. إذا كانت هناك حالة استشرى فيها الفساد بحيث تضطر أن تحفظ ذاتك ونفسك حتى لا تنخرط في هذا الفساد، وهذه حالة نادرة.
حالة أخرى، أن الإنسان أحيانًا يحتاج أن يعيش حالة المراجعة الذاتية، يحتاج لعزلة ولو لساعة ولو ليوم يخلو بنفسه يراجع نفسه. هذا أيضًا ممدوح في الأدبيات الدينية. ورد في الروايات: "تفكر ساعة خير من عبادة سنة".
حالة التفكر تحتاج إلى حالة عزلة، ولو عزلة صورية. يعني في النهاية يحتاج الإنسان أن يخلو بنفسه حتى يقوم بمراجعة ذاتية مع نفسه. إذًا هذه بعض الحالات. الأدبيات الدينية تدعو للعزلة المؤقتة على إنفراد مؤقت، وهناك فرق كبير بين العزلة وحالة الفردانية، أنا إنما طرحت هذه النماذج حتى لا يتوهم الإنسان أن كل عزلة مرفوضة. لكن ليست العزلة تعني الفردانية؛ لا، العزلة كما قلنا هي ظاهرة لا تتساوى تمامًا مع حالة الفردانية. حالة الفردانية كما قلنا تعني تعزيز الحالة الفردية والحالة الذاتية وليست العزلة. العزلة إنما هي مظهر من مظاهر الفردانية. نقول في بعض النصوص الروائية والقرآنية ربما هناك دعوة إلى العزلة المؤقتة ولكن من أجل إصلاح الذات ومن أجل إصلاح الشخصية الفردية حتى تعود وتسهم في دورها الاجتماعي.
ولذلك رأينا سيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه، في طريقه إلى كربلاء، كيف أنه كان حريصاً على أن يبني مثل هذه اللحمة. رأينا في حركة الإمام الحسين سلام الله عليه، حركة منفتحة على كل الأطياف. حضر في كربلاء أطياف مختلفة الانتماءات من كان هاشمياً كالحسين وأبناء الحسين وأهل بيت الحسين، ومن كان من قبائل أخرى كالأسدي والمذحجي والتميمي وغيرهم ممن نصر الإمام الحسين سلام الله عليه في كربلاء. من قبائل أخرى، رأينا الأبيض حضر في كربلاء كواضح التركي، ورأينا الأسود حضر في كربلاء كجون مولى أبي ذر. بل رأينا بعض الروايات تقول أن وهب بن حباب الكلبي كان نصرانياً والتحق بالحسين في طريقه إلى كربلاء، وكان ممن نصر الإمام الحسين. إذًا مشروع الإمام الحسين مشروع منفتح على كل الأطياف، على كل الإثنيات، مما يعني أن المجتمع الإنساني مجتمع يحمل مبادئ مشتركة. وهذه أقصى حالات الالتحام. ولذلك رأينا أيضًا التنوع في عاشوراء. رأينا الشيخ الكبير كالصحابي أنس بن الحارث الكاهلي رضوان الله عليه، ورأينا الشاب الذي في مقتبل العمر، كالقاسم بن الإمام الحسن، جاء إلى الإمام الحسين يوم العاشر يريد الرخصة والإذن منه لأجل القتال، لكن الإمام الحسين كأنما عز عليه من أخيه الحسن، قال: "بني قاسم، أنت شاب صغير، وما لك ومعترك السيوف والرماح؟". تقول الروايات: في ليلة العاشر، يقول القاسم: "يا عم، كيف ترى طعم الشهادة؟". قال: "سيدي أبا عبد الله، بين يديك كطعم الشهد والعسل". قال الإمام: "إن كنت عازمًا على القتال فامضِ إلى وداع النساء". جاء إلى المخيم، ولك أن تتصور شابًّا وجهه كفلق القمر، أحاطت النساء به، هذه تقبله، وتلك تضمه، والأخرى تشمه. لكن، أمه الرملة ماذا كانت تصنع؟ قالت له: "لا تتأخر يا قاسم، ما لك والنساء؟ امضِ، امضِ إلى نصرة عمك الحسين".
آجركم الله، ودع النساء، ثم انفرد بوداع الإمام الحسين. الإمام الحسين ألبس القاسم لامة حربه كهيئة الكفن تصور شاب وجهه كالقمر، يلبس البياض وينحدر إلى الميدان، يتهادى يمشي على قدميه. تقول الروايات إن القاسم هذا الشاب الصغير برز إلى المعركة راجلًا، (حسين يشوف القاسم يتحرك إلى السيوف والرماح بقدمه)، قال له: "بني قاسم، أتمضي إلى الميدان وأنت على قدميك؟". آجركم الله، مضى القاسم، قاتل في القوم قتال الأبطال، أحدث فيهم حدثًا عظيمًا، استغربوا، تعجبوا من هذا الشاب الذي يحدث هذا الحدث في المعركة، يقتل كثير من الفرسان، فأخذوا يتساءلون. فلما رأهم أنكروا، أخذ يرتجز ويقول: "إن تنكروني فأنا شبل الحسن، سبط النبي، هذا حسين كالأسير المرتهن، بين أناسٍ لا سقوا صوب المزن".
بينما القاسم يقاتل، إذا انقطع شسع نعله، انحنى لكي يصلح شسع نعله، اعتلاه الأزدي بضربة بسيفه فلق هامته. ما انجلت الغبرة إلا والحسين إلى جنب القاسم، والقاسم يفحص برجله.
الله أكبر، اللهم بحق الحسين الوجيه، وجده وأبيه وأمه وأخيه، والتسعة من بنيه، عجل في فرج قائم آل محمد. اجعلنا اللهم من أنصاره وأعوانه والذابين عنه، والمستشهدين بين يديه.
اللهم تقبل منا هذا القليل بأحسن القبول. ارحمنا برحمتك الواسعة. انصرنا بنصرك العزيز. ارزقنا شفاعة محمد وآل محمد. ثبتنا على ولايتهم. أحينا على ولايتهم. أمتنا على محبتهم. احشرنا في زمرتهم.
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد عباس نور الدين
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (أبيض وأسود) بنسخته الثّالثة
القرآن وجاذبيّته العامة
القرآن الكريم وأمراض الوراثة
اعتبار الإسلام لرابطة الفرد والمجتمع
لا يدرك الخير إلّا بالجدّ
الوصول إلى حالة الانغماس وقياس مستواها
هل يمكن إثبات المعجزة علميًّا؟ (2)
أزمة العلمانية مع الإسلام
تفسير القرآن الكريم بمعناه اللّغوي
البسملة