علمٌ وفكر

عقلنة الدين ودَيْنَنَة العقل

 

نحو دفاعِ عقلانيِّ عن الدين

حيدر حب الله .. 

تواجه حركة الفكر الإسلامي المعاصر إشكاليات عميقة تتصل بعقلانية الدين، وتمس على السواء المنهج، الخطاب، الآليات، والممارسة...

وليس الجدل حول الخطاب العقلاني الديني جديداً، كما يحاول البعض أن يوحي بأن موضوعة العقلانية موضوعة غربية محض، فالجدل الصوفي، العرفاني، الوعظي... من جهة، والفلسفي، الكلامي، المنطقي من جهة ثانية... والأصولي، الفقهي، التاريخي من جهة ثالثة تعبير جليّ عن صراع في العمق حول عقلنة الدين والخطاب الديني، مع الاعتراف الكامل بأن الإسهام الغربي على هذا الصعيد كان بارزاً جدّاً.

وكمعنيّين بالهمّ الفكري والثقافي، يفترض أن نقف هنيهةً مع هذه الإشكالية المتعددة المنافذ، لنضع جملة إثارات نرى أنها تقف في صدارة أولويات مفكرينا وعلمائنا كي يقدّموا أجوبةً صريحة وشفافة تخدم مسيرة التكامل الفكري والديني معاً.

1- ثمة تساؤلٍ كبير أكثر مما نتوقّع أثاره العرفاء المسلمون قبل أن تحيا جدالاتنا المعاصرة بقرون، هل ثمة طور فوق طور العقل؟ هل من الصحيح تأليه العقل إلى هذا الحدّ؟ من قال لكم بأن العقل محور جميع الأشياء؟...

وقد قدّم التيار النقلي الأسلامي المتمثّل بالفقهاء صياغة أخرى لهذا التساؤل كانت حصيلتها: هل للعقل مجال الكشف عن أسرار البشرية، حتى نخوّله سلطان التشريع؟ هل يمكن للعقل كشف جوهرة النفس وتعقيدات الروح وتشابكات الاجتماع الإنساني حتى يحقّ له القضاء ـ بلا منازع ـ في قضايا الإنسان؟...

وبشكل ثالث، أثارت العقلانية النقدية الحديثة تساؤلها هذا مع كانط ومدرسته: هل يتسنّى للعقل النظري كشف الوجود؟ أليس من الغباء البحث عن ماهيات الأشياء؟ وأليس القنوع بكشف ظواهرها وعلاقاتها تواضعاً قهرياً؟...

ليست قدرة العقل عند العرفاء والفقهاء... وكذلك عند مدارس فلسفة العلوم الحديثة (القرن العشرين) بهذا الشكل الدعائي الذي يجري تسويقه، فهناك تيارات كبيرة وواسعة جداً ما تزال تنظر إلى العقل ـ مع كامل الاحترام والتقدير ـ نظراً مقيّداً.

ما نريده هنا، هو تسجيل ملاحظة على تيارات العقلنة المعاصرة في الوسط الإسلامي، نختزنها في سؤال: ما دامت آخر منجزات فلسفة العلوم ومدارس علم المعرفة في الغرب وغيره، قد أقصت العقل عن مكانته في التفكير الإغريقي... فلماذا كل هذه الحملة الساخرة على التيار الديني عندما يحدّ أحياناً من نشاط العقل لصالح النص الإلهي الذي يقول هذا التيار بأن أساس ثبوته كان من العقل؟! لماذا هذه الموجة الواسعة لإعمال العقل في كل مرافق الحياة بلا استثناء، والإطاحة بكل ما لا يدركه العقل وكأن العقل كشف حقائق العالم والإنسان؟!

إن منجزات العلوم الفلسفية الحديثة، باتت تساعد أكثر من ذي قبل على ممارسة تواضع عقلي، يفسح في المجال ـ لا أقل ـ لعدم رفض قضايا لا يدركها حتى الآن.

من جهة أخرى، يلاحظ المطالع لحركة الأحداث الثقافية إشكاليةً ثانية، وقعت فيها أكثر من مدرسة وتيار إسلامي معاصر، لقد قدّم الإسلاميون خطاباً يدفع العقل تحت شعار نقصه وعجزه لصالح استقدام مقولة الوحي في منظومة التفكير، والسؤال هو، هل أن الوصول إلى الوحي بعيد عن العقل؟!

لقد أحدثت القراءات الجديدة دينياً اختراقاً غير يسير في هذا الجدار، فقد نقلت المعركة حول قوة العقل وسلطانه مع التيارات المدرسية من خارج النص ـ مفرّغةً مقولات المدرسيين من تأثيرها ـ لتدخلها في النص نفسه، مسجلة ضربةً قوية للنشاط المدرسي نفسه عبر إفراغه من قوّته اليقينية، مطلقين مقولات ذاتية الفهم، وبيئيته، وتفاعل المعارف البشرية تفاعلاً كاملاً، وتعدد القراءات والفهوم...

لقد أبدي فهم النص ـ وهو العملية الأهم التي يمارسها المدرسيون ـ أمراً أقلّ قوّة، تماماً كما حاول المدرسيّون إبداء العقل المفارق للنص ضعيفاً هزيلاً، وقد حاول المنحى الجديد التمايل إلى القول بأن العمليتين عقليتان، وأن يكون موضوع الدراسة نصاً لا يصيّرها نصيّةَ بحتة، عندما يكون العقل هو أداتها، كما نجد في علم أصول الفقه الإسلامي.

وبهذا نخلص إلى ما أردناه من أن تواضع الجهد العقلي ـ سواء منه المفارق للنص أو الساعي إلى فهمه ـ أصبح أمراً واقعاً، يفرض على الطرفين معاً عدم التعامل مع العقل، بطريقة دعائية، وشعارية، لتحقيق مكسب أو تسجيل نقطة أو...

2- لكن الدعوة إلى تواضع العقل اليوم، لا تعني إقصاءً له، كما يسعاه فريق آخر، إن تواضع العقل مقولة تنسجم وإعطاءه مكانته المحدّدة، ولا تعني أن العقل لم يعد حاكماً أو نافذ الأمر، لأن أقل صيغة يمكننا تبنيها من الزاوية الإنسانية حول العقل، هي أنه الوسيلة الأكثر حظّاً في بلورة حياة أفضل، مهما كانت قيمتها العلميّة، أي أن نظرةً منفعيةً للعقل تسمح لنا بإعطائه دوراً مميّزاً، وإذا أردنا أن نتجاوز عقبات فلسفة المعرفة الأولية، صح لنا القول بأنّ العقل أكثر وسيلة يمكن توظيفها للوصول إلى ما هو الأكمل.

3- وانطلاقاً من التوازن المطلوب بين مكانة العقل وتواضعه على الصعيد الديني، تبدو أمامنا ظواهر مستجدة تحاول اغتياله تحت مسمّيات العرفان أو التصوّف أو الفقه أو التعبّد.. وإن المرء ليجد استلاباً شاملاً، عندما يدخل هذا العالم، فمن تفسير مغلوط للأستاذ (الشيخ) في العرفان الإسلامي يصيّره إلهاً، ليجعل المريد أو السالك عبداً مسخّراً منقاداً لا مجال عنده للتفكير أو المساءلة أو.. لأن ظواهر كهذه تحيله محجوباً مبعداً... إلى تصوّر ملتبس لمفهوم المرجعية والفقاهة يدفع الفرد العادي إلى تجميد فكره بصورة شبه شاملة...

إن شيوع وسائل معرفية في الأوساط الإسلامية، لم يجر سلفاً قراءتها بدقة فلسفية وعلمية، أدى ويؤدي إلى مظاهر جلية لاستلاب العقل، ومصادرة التفكير، دون أن ندخل في نماذج عينية نافذة في الأوساط الدينية، كبعض المظاهر المتطرّفة للاستخارة، أو الارتباط بعوالم الجن أو الرؤى والأحلام ارتباطاً يزيد على المعدّل الطبيعي للأمور أو خلع صفات الآلهة على العظماء أو... الأمر الذي بات يدفع في الطرف الآخر إلى موجة إنكار شاملة لمقولة الغيب تقصيها إقصاءً غريباً تحت شعار العلمية والموضوعية و...

4- وهذا الإقصاء للغيب وخوارقه ومتعالياته، يعيد إلى الأذهان جُماع الوضعية والبراغماتية في التفكير، وهو جماع نجد تداعياته اليوم في القول بأن الدين يمكنني أن أقبل به عندما تقدّمون عبره نموذجاً حياً ونافعاً.

وهذه المقولة على الاعتراف الذي نحمله إزاءها اليوم، تدفعنا من الطرف الآخر للسعي لتدين العقل، يجب أن لا نغرق أنفسنا في عقلنةٍ للدين لا تأخذ بعين الاعتبار هذا الجانب، ومعنى ديننة العقل هو أخذ هذه المتعاليات أساساً ثابتاً عقلياً وإقحامها في الحياة والمادة انطلاقاً من تمازج الغيب والشهادة في التفسير الديني خصوصاً في أشكاله الفلسفية الأخيرة مع الملا صدرا في الحركة الجوهرية.

ومعنى ما نرومه هنا، هو أن آليات المحاكمة العقلية للقضايا الدينية، يجب أن تأخذ بعين الاعتبار البعد الغيبي، ومن ثم فإذا أريد تقديم تفسير اجتماعي أو نفساني أو اقتصادي أو ... للدين فيجب أن لا نتصور أن هذا التفسير هو الصورة النهائية عن الدين، ومن ثم يجب الإقرار بأننا ما زلنا نقرأ الدين من إحدى زواياه.

إن الصورة العلمية هذه عن الدين، والتي تقدّمه كأمر عقلاني، يجب أن تبقي على النقطة المخفية في الدين نفسه، والتي نسمّيها البُعد الغيبي، وهذا الاحتفاظ بالبُعد الغيبي إنما هو نتاج مزودج من الاعتراف بالمكانة الحقيقية للعقل من جهة، والاعتقاد بالمبدأ الأعلى من جهة أخرى، لأننا هنا نفترض أننا نتكلم من داخل الدين كمؤمنين به لا من خارجه، وإلا فإن الحديث سيغيرّ مساره على الافتراض الثاني.

5- ومن هنا نسجل ملاحظتنا على بعض التيارات المعاصرة التي قرأت الدين من زاوية علم الاجتماع أو النفس أو الاقتصاد أو... ـ وهي قراءة بالغة الأهمية ـ لكنها استهلكت نفسها في ذلك موحيةً بأن الدين هو هذا البُعد فحسب، وعندما يكون الدين هذا البعد فقط فإن موجة ترحيل المتعاليات الغيبية ستبدأ بالتأكيد، لأن آليات العلوم الإنسانية التي ندافع ـ بالتأكيد ـ عن إعمالها في المجال الديني، لم تعتد اقحام موضوعة الغيب في قراءة الدين ولا غيره، الأمر الذي يجبر عالم الاجتماع الديني من حيث لا يشعر على تقديم صورة مادية (لا بالمعنى السلبي) للدين، ولما كانت هذه الصورة منقوصة لم يكن من المسموح ـ علمياً ـ عرضها كصيغة نهائية، أي أن في الدين ـ وبالمجمل ـ نقاط تتعالى عن الصيغ الموجودة في القراءات (المادية) للحياة.

6- ويبقى في هذه العجالة أن نشير إلى مسألة الدفاع العقلاني عن الدين، إن العقل الحداثي الذي سكن عقولنا في العالم الإسلامي، لم يعد يرضى بالدين كصورة غامضة، يجب تقديم تصوّر عقلاني عن الدين من جهة، كما يجب أن نمارس أعلى درجات العقلانية أثناء دفاعنا عن الدين من جهة ثانية، أقصد بها هنا العقلانية السلوكية، إن الدفاع العقلاني الهادىء عن الدين بات يلحّ اليوم لإبعاد مظاهر التكفير والتفسيق والتضليل والتجهيل... المتبادل من أوساطنا، فقد شبعت عقولنا وأسماعنا صورا هجومية كهذه، أكّدت التجارب أنها لم تعد تنفع، إذ أردنا ان نقيمهـا ـ في الحد الأدنى ـ من الزاوية المنفعية.

كما أن الدفاع العقلاني عن الدين، يستدعي اليوم تركيب الأجزاء المبعثرة من الصور التي نحملها عنه، أي يجب تقديم الدين في صورة متكاملة، وهذا التبعثر في المفاهيم يقف على النقيض من المنحى العقلاني، الأمر الذي يلزمنا في أبسط صوره بقراءة الدين والتراث قراءة شمولية مشرفة، والخلاص من القراءات المحلّية له، أي من قراءته كفقه، أو تاريخ، أو عبادة أو عقل أو اقتصاد أو...، وبهذه الروح المشرفة غير الضيقّة بإطار محدّد يمكن أكثر فأكثر إبداء الوجه العقلاني للدين دون الدخول في متاهات مظلمة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد