قرآنيات

تفسيــر سورة الإسراء (2)

 

السّيّد موسى الصّدر

 

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ* وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً* ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً﴾ (الإسراء: 1-3).

 

معجزة محمّديّة
﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾؛ تكشف هذه الآية معجزة محمّديّة حصلت أيّام وجود الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم في مكّة؛ ففي ليلة من اللّيالي، أسرى الله بـ"محمّد" صلّى الله عليه وآله وسلم، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. لا شكّ في أنّ الفاصل بين مكّة والقدس كبير، يتجاوز إمكانيّة التّحرّك العاديّ للإنسان قبل أربعة عشر قرنًا، ولكنّ الله أراد ذلك، والمعجزة من الله، وإرادته تعالى فوق كلّ إرادة. ولهذه المسألة تفسيران:

1- قضيّة منام: بعض الباحثين يجنحون إلى التفسير العلميّ للقرآن الكريم بمعزل عن كونه كتاب دين ووحي، وقد حاولوا أن يفسّروا الإسراء، بإسراء روحيّ أو معنويّ، فاعتبروا أنّ روح النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أُسري بها. وهنا، حاولوا أن يجعلوا قضيّة الإسراء قضيّة منام.

2- حركة جسديّة: الآية الكريمة ترفض هذه التفاسير التي تعتمد على تأويل كلماتها. فالكلام صريح؛ "أسرى"، أي جعله يمشي في اللّيل، فالرّوح لا تحمل زمانًا، والمنام لا يدخل في إطار الزمن، ولا يحصل في اللّيل أو في الّنهار، والإنسان يعيش الزمن ليلاً أو نهارًا، أمّا الحلم والتفكير والانتقال الرّوحيّ والتّدبّر، فلا زمان لكلّ واحد منها. ثمّ تأتي كلمة (عبده) ﴿أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾، أي بهذا الجسم الكامل جسمًا وروحًا، ثمّ كلمة (من) و(إلى)؛ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فهذه البداية وتلك النّهاية، صفتان للحركة الجسديّة. وبعد ذلك كلّه: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى﴾؛ هذه العبارة تؤكّد أنّ هذه الحركة كانت معجزة وخارقة.

أرض مباركة
﴿الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾؛ فحول المسجد الأقصى أرض فلسطين، وأرض لبنان، وأرض سوريا، وأرض الأردن، وهي كلّها أراضٍ مباركة باركها الله بإرسال الأنبياء عليهم السلام إليها، وبخصوبة الأرض، وبعبقريّة إنسانها. هذه الأراضي المباركة هي التي أنتجت الحضارات العالميّة كلّها والرسالات العالميّة أيضًا.

 

عالميّة الإسلام
لماذا انتقل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؟ يقول القرآن الكريم: ﴿لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا﴾؛ أي كي يزداد علمًا وتدبّرًا وتفهّمًا وتفكّرًا، ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾.

أمّا السّبب الأساسيّ لانتقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فهو لترابط هذه الحلقة الحضاريّة والدينيّة والعالميّة وتنسيقها وإتمامها، وربط الإسلام الذي نزل عليه صلى الله عليه وآله وسلم في الجزيرة بتلك الحضارات وبهذه الأديان تكريسًا لعالميّة الإسلام، والتّأكيد أنّ الله أرسل محمّدًا صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين.

فالمسجد الأقصى رمز لعالميّة الإسلام، وسقوطه من يد المسلمين، يعني انعزاليّة الإسلام وتراجعه، فللمسجد هذا دور أساسيّ في الإسلام وهو من أركانه؛ إذ لا يجوز للإنسان المسلم والمؤمن أن يسكت لحظة واحدة دون سعي أو جهد لإعادة هذا المسجد الكريم وإبعاده عن التّهويد.

إنّ اختيار المسجد الأقصى نقطة النّهاية للإسراء ونقطة البداية للمعراج هو لما في هذه المنطقة من المعاني؛ وكأنّها النّقطة التي يلتقي التاريخ فيها بالجغرافيا، إنّها معبر إبراهيم عليه السلام أبي الأنبياء، ونهاية السّيرة الموسويّة، ومولد المسيح عليه السّلام، ومهبط الأنبياء عليهم السّلام، والقبلة الأولى لأمّة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

والعلم يؤكّد في تاريخه، أنّ منطلق العلوم الحديثة، هو هذه المنطقة، التي صدّرت علومها إلى الإغريق وسامراء، حيث الحضارات السومريّة وفروعها، وإلى الإسكندريّة، وفارس. وبذلك نجد أنّ المنطقة المباركة هذه هي نبع البركات الروحيّة والفكريّة للعالم أيضًا.

ولعلّ هذا التّلاقي بين الرّسالات والعلوم هو السبب في عالميّة الرّسالات الخاصّة بهذه المنطقة، دون بقيّة الرّسالات، رغم أنّ لكلّ قوم كتابًا ورسالة في منطق القرآن الكريم؛ وذلك لأنّ إصدار العلوم إلى العالم، دليل على المستوى الّذي يعيشه أبناء هذه المنطقة وعالميّة رسالاتهم وحضاراتهم. أمّا الإسراء إلى هذه النّقطة، فيرمز إلى عالميّة الإسلام وتلاقيه مع الرّسالات والحضارات في الوقت نفسه.

 

العلاقة بالمسجد الأقصى
إنّ الانتقال من قضيّة الإسراء إلى المسجد الأقصى، ثمّ إلى قضيّة موسى عليه السلام، وإعطائه الكتاب والهدى لبني إسرائيل، دليل ظاهر على ما بين القضيّتين من ترابط مأساويّ ومحن إنسانيّة. لذلك، وبصورة صريحة، يضع القرآن الكريم حدودًا للعلاقات المذكورة، حيث يشير إلى الشّرط الذي ورد في التّوراة والإنجيل: ﴿أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلًا﴾ (الإسراء: 2). ثمّ يتابع القرآن الإيضاح قائلاً: إنّ بني إسرائيل هم ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ﴾ (الإسراء: 3). ونجوا من الغرق الذي حصل. وبسبب التّجربة المريرة التي مرّت عليهم وعاشها آباؤهم، عرفوا أنّ نجاة نوح عليه السلام سببها أنّه كان عبدًا شكورًا، ولم يتّخذ من دون الله وكيلاً. وبعد هذه التّجربة، كان على بني إسرائيل أن لا يسجدوا إلّا لله، وأن لا يتّخذوا أهواءهم آلهة، وإلّا فلا علاقة لهم بالمسجد الأقصى وبكلّ ما يرمز إليه من معانٍ سامية.

إنّ جميع ما ورد في التوراة من وعود لأبناء إبراهيم عليه السّلام جميعًا، مشروطة بسلوكهم والتزامهم الدينيّ والعمليّ باتّباع الله، وبمحبّة خلقه تعالى.

 

تحوّل تاريخيّ

والعبرة الواضحة التي تبقى أمام عين الإنسان المؤمن، هي هذا التحوّل التاريخيّ القطعيّ الذي يظهر في تاريخ الأمم، والتّحرّك الصّحيح المنسجم مع إرادة الله، ومع حركات الموجودات، ومع ضمائر الخلق والقوى الكونيّة. هذا التحرّك يتبعه الصّعود إلى الكمال، حتّى إذا ما انحرفت الأمّة، فإنّه يهبط بواسطة عوامل كونيّة أو بشريّة، وعلى كلّ حال، بواسطة جنود الله: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ (الأعراف: 34).

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد