من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن الكاتب :
أحد مراجع التقليد الشيعة في إيران

النبي داوود (ع) (2)


الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ..
داوود والامتحان الكبير:
يبيّن القرآن المجيد أحداث قضيّة عرضت على داوود.
ففي البداية يخاطب القرآن المجيد الرسول الأكرم (ص): ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ﴾.
فرغم أن داوود (ع) كان محاطًا بأعداد كبيرة من الجند والحرس، إلا أن طرفي النزاع تمكّنا – من طريق غير مألوف – تسوّر جدران المحراب، والظهور أمام داوود (ع) فجأة، ففزع عند رؤيتهما، إذ دخلا عليه بدون استئذان ومن دون إعلام مسبق، وظن داوود أنهم يكّنون له السوء، ﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ﴾.
إلاّ أنهما عمدا بسرعة إلى تطبيب نفسه وإسكان روعه، وقالا له: لا تخف نحن متخاصمان تجاوز أحدنا على الآخر ﴿قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ﴾.
من المسلّم به أن قلق وروع (داوود) قلّ بعض الشيء عندما وضّح الأخوان هدف مجيئهما إليه، ولكن بقي هناك سؤال واحد في ذهنه هو، إذا كنتما لا تكنّان السوء، فما هو الهدف من مجيئكما إليّ عن طريق غير مألوف؟
تقدّم أحدهما وطرح المشكلة على داوود، وقال: هذا أخي، يمتلك (99) نعجة، وأنا لا أمتلك إلاّ نعجة واحدة، وإنه يصرّ عليّ أن أعطيه نعجتي ليضمها إلى بقيّة نعاجه، وقد شدّد عليّ في القول وأغلظ ﴿إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾.
وهنا التفت داوود (ع) إلى المدّعي قبل أن يستمع كلام الآخر وقال: من البديهي أنه ظلمك بطلبه ضمّ نعجتك إلى نعاجه ﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ﴾.
فالظاهر أن طرفي الخصام اقتنعا بكلام داوود (ع) وغادرا المكان.
ولكن داوود غرق في التفكير بعد مغادرتهما، رغم أنه كان يعتقد أنه قضى بالعدل بين المتخاصمين، فلو كان الطرف الثاني مخالفًا لادّعاءات الطرف الأول – أي المدّعي – لكان قد اعترض عليه، إذن فسكوته هو خير دليل على أن القضية هي كما طرحها المدّعي.
ولكن آداب مجلس القضاء تفرض على داوود أن يتريّث في إصدار الأحكام ولا يتعجّل في إصدارها، وكان عليه أن يسأل الطرف الثاني أيضًا ثم يحكم بينهما، فلذا ندم كثيرًا على عمله هذا، وظنّ أنما فتنه الباري عزّ وجلّ بهذه الحادثة ﴿وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ﴾.
وهنا أدركته طبيعته، وهي أن أوّاب إذ طلب العفو والمغفرة من ربه وخرّ راكعًا تائبًا إلى الله العزيز الحكيم ﴿فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ﴾.
على أية حال، فالله سبحانه وتعالى شمل عبده داوود بلطفه وعفا عن زلّته من حيث ترك العمل بالأولى، ﴿فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ﴾. وإن له منزلة رفيعة عند الله ﴿وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾.


ما هي حقيقة وقائع قصّة داوود؟
الذي وضّحه القرآن المجيد في هذا الشأن لا يتعدّى أن شخصين تسوّرا جدران محراب داوود (ع) ليحتكما عنده، وأنه فزع عند رؤيتهما، ثم استمع إلى أقوال المشتكي الذي قال: إنّ لأخيه (99) نعجة وله نعجة واحدة، وإن أخاه طلب منه ضمّ هذه النعجة إلى بقيّة نعاجه، فأعطى داوود (ع) الحق للمشتكي، واعتبر طلب الأخ ذلك من أخيه ظلمًا وطغيانًا، ثم ندم على حكمه هذا، وطلب من الله سبحانه وتعالى أن يعفو عنه ويغفر له، فعفا الله عنه وغفر له.
وهنا تبرز مسألتان دقيقتان أيضًا: الأولى مسألة الامتحان، والثانية مسألة الاستغفار.
القرآن الكريم لم يفصّل الحديث بشأن هاتين المسألتين، إلا أن الدلائل الموجودة في هذه الآيات والروايات الإسلامية الواردة بشأن تفسيرها تقول، إن داوود كان ذا علم واسع وذا مهارة فائقة في أمر القضاء، وأراد الله سبحانه وتعالى أن يمتحنه، فلذا أوجد له مثل تلك الظروف غير الاعتيادية، كدخول الشخصين عليه من طريق غير اعتيادي وغير مألوف، إذ تسورا جدران محرابه، وابتلائه بالاستعجال في إصدار الحكم قبل الاستماع إلى أقوال الطرف الثاني، رغم أن حكمه كان عادلاً.
ورغم أنه انتبه بسرعة إلى زلّته، وأصلحها قبل مضيّ الوقت، ولكن مهما كان فإن العمل الذي قام به لا يليق بمقام النبوة الرفيع، ولهذا فإن استغفاره إنّما جاء لتركه العمل بالأولى، وإن الله شمله بعفوه ومغفرته.
والشاهد على هذا الكلام إضافة إلى ما ذكرناه قبل قليل – هو قوله سبحانه الذي يأتي مباشرة بعد تلك الآيات، والذي يخاطب داوود (ع): ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾. وهذا الكلام يبيّن أن زلّة داوود كانت في كيفيّة قضائه وحكمه.
وبهذا الشكل فإن القرآن لا يذكر شيئًا يقلّل من شأن ومقام هذا النبي الكبير.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد