مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
إيمان شمس الدين
عن الكاتب :
باحثة في الفكر الديني والسياسي وكاتبة في جريدة القبس الكويتية

الهوية بين التفاعل الحضاري والاندماج (1)


إيمان شمس الدين ..

مقدمة الهوية هي المعرف عن فرد أو مجتمع أو دولة، تدلنا على الثقافة والأيديولوجيا السائدة وطابع العادات والتقاليد، فترسم معالم المشهد الإنساني وطريقة تفاعله مع ذاته ومحيطه. فتكون بمثابة المفتاح الذي من خلاله نقرأ داتا الفرد والمجتمع، ومن خلالها تتضح آليات التواصل والاتصال بين مختلف الشعوب والمجتمعات والأقطار.  التفاعل الحضاري: للهوية معالم ثابتة تعبر عن شخصية اعتبارية لحاملها وتؤثر في محيطها، ولكن لها في ذات الوقت جانب متأثر تأثرًا خاضعًا لظروف العصر أي الزمان والمكان، حيث جانبها المتغير الذي يتطور من خلال التغافل الحضاري مع الثقافات الأخرى، وما أعنيه بالتفاعل الحضاري هنا هو تداخل أيجابي يؤثر ويتأثر، ويطور وينهض من خلال استفادته من تجارب الهويات الأخرى الإيجابية النهضوية، دون أن تتغير ملامحه الثابته التي تمثل بصمته الخاصة. الغرب بين الإحلال والتفاعل: جاء المشروع الإسلامي بفهم حضاري للتفاعل يهدف منه أمرين:  الأول: تفعيل القيم الثابتة في فضاءات المعرفة لكل ما هو خارج الجسد الإسلامي، حيث القيم الثابتة جزء من الفطرة الإنسانية وتفعيلها كسلوك، حيث التفاعل يعمل على إزالة الحجب عن النفس لتمرير تلك القيم التي تمهد الطريق لتحقيق العدالة بين كل البشر. وهو ما يتطلب لوازم أهمها امتلاك هذه الحضارة مقومات التأثير من مكنة واكتفاء ذاتي وتكافؤ علمي وتحقيق منجز حضاري فاعل في حياة الإنسان يسهل عملية السريان المعرفي بين الإسلام وغيره من الحضارات. الثاني: المواكبة والمعاصرة التي لا تتحقق إلا من خلال الاطلاع على تجارب الحضارات الأخرى والاستفادة من إبداعاتها العلمية، ونهضتها القيمية في الجانب المشترك الإنساني مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات المنهجية والمنطلقات القاعدية لكل حضارة، أي هو تواصل واتصال ومشاركة واكتساب خبرات تفعل المسكوت عنه في اللاوعي الإنساني، وتطور من نظرة المجتمعات للحياة، وتزيل الأغلال غير السليمة التي توارثتها المجتمعات عن الآباء دون وجود مسوغ عقلي وشرعي لها.

أهمية التفاعل: تكمن أهمية التفاعل في أمور عديدة أهمها: - توسيع المدارك المعرفية وتنضيجها بالاطلاع على تجارب الآخرين البشرية. - تفعيل مفهوم التعدد الإيجابي، وثقافة الخروج من الصندوق، وإرساء مفهوم تعددي يوسع مساحات الاشتراك المعرفي وبالتالي يفعل عمليًّا مفهوم التعايش والتسامح الحضاري على أساس التكافؤ الإثني وليس الإحلال والإلغاء. - ينضّج القدرات العقلية في فهم الدين بما يحفظ خاتميته ودون المساس بخلوده. ويعمل على تذليل العقبات أمام العقول من خارج الجسد الإسلامي لفهم هذا الدين الخاتم ومحاولة ترصيف رؤيتهم الكونية بمفاهيمه عن التوحيد والعبودية. - يبسط نفوذ الله قبال نفوذ القداسات السياسية والدينية، حيث تفعيل مفهوم العبودية والحرية الحقيقية يزيل كل الحجب العقلية في لا وعي الشعوب التي اشتغل عليها المستبد أيّ كان لاستعباد الجمهور وتمكين سلطته عليه. وهو ما يستدعي تفاعل مقتدر ومدرك للآخر ويمتلك المكنة في اختراق لا وعيه بوسائل يفهمها هو ويمكنها الوصول إلى عقله وقلبه. معايير التفاعل الحضاري: - يحتاج التفاعل مكنة وقدرة واكتفاء ذاتي يكون إما متكافئًا مع الآخر أو يسبقه بدرجة، وهذا من مقومات التحصين الذاتي للثوابت ومقومات الوجود، فيكون التفاعل من موقع التأثير والتأثر الإيجابي. هذا لا يعني عدم توفر المكنة كما هو حالنا أن ننغلق على ذاتنا، ولكن تصبح مساحة التفاعل أضيق حفاظَا على الهوية لعامة الناس، فيكون التفاعل مقتصرًا على طبقة النخب والتي تسعى بتفاعلها هذا لتحصين الداخل وإيجاد إجابات للتساؤلات المطروحة نتيجة تسرب ثقافة الآخر للجسد دون وجود ضوابط ولا حصانة ولا مكنة، فتكون النخبة بمثابة الفلتر الذي يحاول تثبيت الثوابت وغربلة الشوائب وممارسة عمل تحصيني قادر لا أقلا درء الشبهات و حماية الهوية دون أن يطمح للتأثير إلا في نظاق النخبة عند الآخر فتتغير الأولويات هنا نتيجة عدم توفر المعايير من أولوية التأثير الواسع إلى أولوية التحصين مع التأثير المحدود والسعي الدؤوب لتوفير معايير التفاعل الحضاري. - لا يمكن أن يتم التفاعل الحضاري مع توفر معاييره إلا إذا كانت بنية الأمة قوية وهويتها محصنة بشكل علمي برهاني، بل لديها فلتر للشبهات وقادرة على مواجهة كل محاولات الإقصاء، وتمتلك العزة والكرامة وهما قيمتان تحافظان على الهوية من خلال تحقيق حالة الاعتزاز بها، وهذا لا يحدث إلا من خلال تأسيس المجال الإدراكي للأمة، وتحصينها بالعلم والمنهج البرهاني الذي يحاور ويمتلك وعيًأ وجوديًّا ومنفتحًا على الآخر ومدركًا له ولمبانيه. فالعلم معيار أساسي في عملية التفاعل الحضاري وأعني هنا معرفة الذات معرفة عميقة، ومعرفة الآخر أيضًا معرفة عميقة وامتلاك أدوات منهجية علمية رصينة في مشروع التفاعل الحضاري.

الغرب ونزعة الهيمنة: تاريخيًّا نشأت أوروبا على أساس نزعات الهيمنة والتوسع، وكانت الحروب والإغارات الوسيلة الأنجع في بسط النفوذ وفرض النموذج الثقافي والسياسي، ومع التقادم وبعد عصر التنوير بالذات وتضاؤل هيمنة الكنيسة، وما حققته أوروبا من اكتشافات علمية هائلة مكنتها فيما بعد من الهيمنة على الطبيعة، لم يغير ذلك من نزعتها للتوسع والهيمنة باحثة عن الثروات الجغرافية والمعدنية وعلى رأسها ثروة الطاقة، فقامت باستعمار كثير من دول منطقتنا، وخلال الاستعمار العسكري مارست استعمارًا ثقافيًّا حاولت من خلاله السطو على المجال الإدراكي للشعوب المحتلة، حيث ركز المستعمر على المجال التعليمي ففتح مدارس تابعة له وهو من يضع مناهجها، وكان من خلال التربية والتعليم يفرض قيمه ونظرته الوجودية ورؤاه المعرفية وبنيته القيمية، دون أن يعمل أي اعتبار لاختلاف الثقافات والهوية، بل كان من موقع القوة والنفوذ لا يريد فقط أن يهيمن على الأرض والثروات بل حتى على عقول البشر ليمحو كل اتصال لهم بهويتهم الخاصة ويرسم لهم معالم هوية جديدة مرتبطة به هو حتى يتحول وجوده في ذهنية الشعوب المحتلة من مستعمر إلى وجود ضروري تحتاجه الشعوب لتحقيق طموحاتها في العلم بعد أن كانت ترزح تحت وطأة الاستبداد العثماني لترى فيه الخلاص، كما كان يطمح المستعمر أن يطرح نفسه لتلك الشعوب على أنه خلاصها من الاستبداد. في هذه المرحلة من الاستعمار العسكري لم تفلح محاولاته تلك بل تحول من مخلص إلى مستعمر تزى فيه الشعوب وحشًا يريد أن يفتك بها، فكان القرار هو المقاومة التي تعني مزيدًا من التمسك بالهوية ورفضًا لكل ما له صلة بهذا المستعمر، وهذا لا يعني عدم تأثر كثيرين بهوية هذا المستعمر وببنيته الفكرية والفلسفية، لكن كان الجو الغالب هو الرفض والتحصين ومزيد من التمسك بالهوية.

وهنا تشكلت لدينا تيارات في كيفية التعامل مع المستعمر للأرض: - تيار وجد فيه الخلاص وانجذب لكل محمولاته العلمية والثقافية واندك به ليصبح جزءًا منه ولم يتوان هذا التيار حتى من التعاون عسكريًّا معه ضد أرضه وشعبه، كون مكنة المستعمر العسكرية والعلمية استطاعت السطو على المجال الإدراكي لكثير من النخب الذين بهرتهم الإنجازات العلمية والحضارة الغربية ببعدها المادي الذي قدم خدمات للإنسان وسهل عليه حياته كما يظهر للوهلة الأولى. - تيار رفض رفض رفضًا كبيرًا وحاسمًا كل ما له علاقة بهذا المستعمر حتى لو كان على مستوى العلم والثقافة بما هو نافع ويمكن أن يقدم تجربة بشرية تدفع باتجاه مزيد من توسعة المدارك، وذلك لأن المستعمر هيمنته العسكرية ومطامعه التوسعية ونزوعه نحو إقصاء الآخر استخدم العلم ليس لأجل خدمة الآخر، بل كوسيلة للهيمنة عليه وإقصاء ثقافته وهويته لتحل محلها الهوية الاستعمارية وثقافتها. - تيار امتلك نوعًا من المرونة، واستطاع الاستفادة من المنجز العلمي ولم يسمح مع ذلك من تغيير الهوية ولا الإحلال الثقافي بل كان محصنًا ضد أي نوع من الإحلال ولكنه استفاد من منجزات الغرب الحضارية والعلمية. وهم في ذلك الوقت قلة لكنهم نخبة.   وبعد الانسحاب العسكري نتيجة ضربات المقاومة وتقسيم المنطقة، ووضع أنظمة مستبدة وموالية للمستعمرين بدأت عملية غزو وحرب من نوع آخر، تهيئ أرضية وقابليات الشعوب لتصبح سوقًا استهلاكية لسلع الغرب. وظهرت ازدواجية الغرب في رفع شعارات حقوق الإنسان وفي ذات الوقت دعمه لأنظمة استبدادية قمعية، وكانت شعارات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان كورقة ضغط في يده، يستخدمها ضد الأنظمة لتمرير مشاريعه وخاصة تلك المتعلقة بتمكين الشركات الكبرى في الغرب من السيطرة على الأسواق الداخلية. وفي تقرير حول ممارسات صندوق التقد الدولي يوضح وحشية الممارسات التي يقوم بها هذا البنك تحت شعار الإنماء وسد العجز حيث يوضح التقرير بأن الصندوق يعيد خلق العالم على صورته ويوضح كيف يبشر  بـ«دين» أوحد للتقدم ، ويذكر التقرير أنه" عندما تم إنشاء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في سنة 1945، مباشرة بعد نهاية الحرب العالميّة الثانية؛ كان الهدف المعلن من هذه المؤسّسات الماليّة العالمية هو العمل على «تعزيز الاستقرار المالي والتعاون في المجال النقدي على مستوى العالم»، لكن وبعد تتبّع آثار تدخّلات هذه المؤسسات في البلدان الناميّة خصوصًا، يتّضح وجه آخر لتعاملات مشبوهة غير تلك المعلنة، فمن خلال استخدام الشروط نفسها والحلول الماليّة نفسها في التعامل مع مختلف الدول التي تطلب القروض من هذه المؤسسات، تدفع بأجندة تخدم مصالح الشركات الكبرى وأصحاب الأموال من جهة، بالإضافة إلى الدول التي تملك نفوذًا كبيرًا داخل هذه المؤسسات بطبيعة الحال.

وتروّج هذه المؤسّسات الماليّة العالميّة لسياساتها على أنّها المنفذ الوحيد للدول التي تعاني عجزًا ماليًّا، وبتقديمها للقروض الماليّة المشروطة بتنفيذ هذه الدول المعنيّة سياساتها الليبراليّة؛ فإنها تُحكم قبضتها على الاقتصاديات الناشئة وترهن مستقبلها، وتجعل أسواقها في أيدي الشركات العالمية الكبرى بعد فتحها ورفع أيدي الدولة عن التنظيم ومتابعة السوق، مما يدخلها في منافسة غير متكافئة. ما أن تلجأ أيّ دولة لأخذ قرض من صندوق النقد الدوليّ فإنّ الصندوق يبدأ في تشغيل الأسطوانة نفسها، وتلاوة القائمة المتكرّرة من الشروط والطلبات: إصلاحات هيكليّة في الاقتصاد تتضمّن بيع الشركات المملوكة للدولة، وتقليص الموظّفين في القطاع العمومي وتقليص رواتبهم، وفتح الأسواق للاستثمارات الأجنبيّة بلا شروط، وتشجيع الاستيراد وتقليص الدعم الحكوميّ للفئات الفقيرة، والتخلّي عن حماية العمّال والفلاحين وإضعاف النقابات." ويذكر التقرير تجربة الصندوق مع مالاوي قائلًا :"تحولت مالاوي إلى مجرّد أراضٍ زراعيّة يتحكّم فيها لوبي السجائر العالميّ ويحرص على مصالحه التجاريّة بشكل قانونيّ تمامًا، بفضل السوق المفتوحة التي فرضتها المؤسسات الماليّة العالميّة. ومن أجل أن يدخّن الأوروبيّ أو الأمريكيّ السجائر بأرخص سعرٍ ممكن، لا بأس أن يجوع الملايين في مالاوي وغيرها من البلدان النامية التي زارها مسؤول من صندوق النقد." حيث " أشار تقرير للجارديان البريطانيّة إلى أنّ سياسات صندوق النقد الدوليّ قد «أدّت بمالاوي إلى المجاعة»، فالدولة الأفريقيّة التي قرّرت – تحت ضغط الصندوق – خصخصة قطاع البذور وتحريره من يد الدولة التي كانت تنظّم الأسعار وتضمن اكتفاءً ذاتيًّا من البذور، وجدت نفسها في سنة 2002 أمام مجاعة هي الأسوأ منذ 1949. وقد بلغت خدمات ديون مالاوي في تلك السنوات 70 مليون دولار أمريكيّ، أو ما يمثّل 20% من ميزانيّة الدولة، وهو ما يمثّل أكثر من ميزانيّة الصحّة والتعليم والزراعة مجتمعة، في بلد ما زالت أوضاعه الاقتصاديّة معلّقة بيد دائنيه، وتقلّبات الأحوال الجويّة."

1-المصدر :

https://www.sasapost.com/imf-one-model-for-the-world/

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد