مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
إيمان شمس الدين
عن الكاتب :
باحثة في الفكر الديني والسياسي وكاتبة في جريدة القبس الكويتية

الهوية بين التفاعل الحضاري والاندماج (2)

 

 إيمان شمس الدين ..

هذا النموذج الذي يفرض وجوده ثقافيًّا واقتصاديًّا من خلال ضرب كل مقومات الاكتفاء الذاتي للدول المقترضة، لتصبح أسيرة بشعبها لقرون لشره نخبة اقتصادية تهيمن على كل مداخيل الدولة لإفقار أهلها وتجردهم من كل مقومات الحياة، وبذلك تحقق استعمارًا خفيًّا تحت شعار الدعم والمساندة. وبعد العولمة بالذات ورفع شعار صدام الحضارات، والمتصل بماضي الغرب في شرهه للتوسع والهيمنة وإحلال قيمه وهويته، فقد برزت حرب ناعمة تستهدف الهوية في عمقها الوجودي، تاريخيًّا بضرب كل جذورها المتصلة بالماضي، وقيميًّا بضرب قيمها المعنوية والثابته وإحلالها بقيم مادية استهلاكية شرهة. ونتيجة الاستبداد وإفقار الشعوب ماديًّا وعلميًّا وتحويل وجهة أغلب هذه الشعوب، من هدف طلب العلم والنهضة والكرامة والحرية والعدالة، إلى السعي الدؤوب اليومي الذي يلهث فيه الفرد لسد رمقه ورمق عائلته، أي سعيًا حثيثًا وراء رغيف العيش، ورغم أن هناك دولًا غنية جدًّا بثرواتها المالية، إلا أن معدلات الفقر والبطالة فيها مرتفعة بسبب فساد السلطة، وسيطرة نخبة طبقية على مقدرات الشعب، وشراء ذمم الغرب بشره شراء السلاح بحجة الأمن على حساب التنمية والاستثمار الحقيقي في الإنسان. ولأن الغرب متقدم علميًّا وتكنولوجيًّا بما يخدم الإنسان في بعده المعيشي الدنيوي، ومع تقديم نموذج للإسلام متخلفًا، اقتنعت أغلب الشعوب وتم تحت هيمنة الإعلام العالمي القوي الربط بين الإسلام والتخلف، والغرب والتمدن والحضارة، ومع تقصير كثير من الاصلاحيين والنهضويين من تقديم نموذج سلوكي حضاري للإسلام تظهر آثاره في الدنيا على نهضة الإنسان، فإن ذلك أزال كل العقبات أمام عولمة النموذج الغربي في كل أبعاده الحياتية والسلوكية والقيمية. حيث هيمنت المدرسة الوضعية الغربية على مجالنا الإدراكي، وبات كل شيء خاضعًا في تقييمه للتجربة والحس، واضمحل عالم الغيب والمعنى، بسبب عدم وجود نموذج عملي سلوكي يقدم الإسلام على أنه واقعًا دين حياة. رغم أن الدين هو للدنيا والآخرة، إلا أن عوامل كثيرة أدت لتنحيته عن الدنيا وتشويه صورته وحرف دوره النهضوي لدور تعطيلي تخديري بعيد عن كل دعوات النهضة والحياة. ولكن كيف واجهت منطقتنا المنكوبة بالاستبداد، والمكتوية بالتطرف، والمثقلة بحجم التآمر عليها، كيف تواجه العولمة والحرب الناعمة على هويتنا بل وجودنا؟ الزوال الاندماجي: يقوم على أساس الاندماج غير المدروس مع الثقافات الأخرى، بحيث تقوم القوى الناعمة على اختراق الهوية الخاصة وتفكك بناها الأساسية التي تقوّم وجودها، ومن ثم تعمد إلى تفكيك منهجي لكل مقومات الهوية، و تعيد تشكيلها من خلال عملية الإحلال لثقافتها ومع التقادم تذوب المجموعة المندمجة في هذه الثقافة، وتزول معالم هويتها تمامًا، وتنشأ أجيال على الهوية الجديدة التي تشكلت نتيجة الإحلال الناعم. وهذا ما تقوم عليه فكرة الاستعمار بل والعولمة والتي هي استعمار خفي. هذا ما أدركه اليهود، ودفعهم تحت عنوان شعب الله المختار إلى الانعزالية، وتشكيل جيتو خاص لهم، يضمن الحفاظ على هويتهم اليهودية، ويمنع أي عملية زوال اندماجي مع التقادم. لكن الله رسم معالم الاندماج الصحيح حينما أسس له أسسًا تمنع الاندماج غير المدروس، ولكنها تتفاعل مع الثقافات والمجتمعات الأخرى على أساس : 1. التعارف القائم على تبادل الخبرات والاحترام المتبادل للخصوصيات، والاستفادة من النافع لتطوير الهوية وتطوير القراءة للحياة. 2. التقوى التي يراعي فيها كل طرف حدود الله بحق الطرف الآخر، وهذه المراعاة تحقق العدالة وتمنع الظلم. 3. التفاضل مشروط بالتقوى وأن الأفضلية هي من تصنيف الله وليس من شأن البشر.  حيث قال عز من قائل : "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ“   الحجرات ١٣

فتصبح الفكرة: التفاعل الاندماجي الذي يطور الهوية، ويعزز وجودها وينقلها بصيغ متطورة للأجيال، محافظًا على ثوابتها، ومطورًا متغيراتها الخاضعة للزمان والمكان، ومعززة لكرامتها بالتقوى التي تدفع المجتمعات للتفاعل ضمن دائرة العدل وعدم الظلم وحفظ الحقوق. إلا أن الواقع اليوم يميل ليس للتفاعل وإنما للزوال الاندماجي، الذي يحاصر هويتنا من كل جهة ونتيجة هذه المواجهة الناعمة ظهر مدارس عديدة في التفاعل مع هذه الحرب الناعمة: - التفاعل مع روح المدرسة الوضعية وإخضاع الواقع كله للحس والتجربة ورفض كل ما هو خارج هذا الإطار، وهؤلاء رفضوا كل مصادر المعرفة الإسلامية غير الخاضعة للحس والتجربة بما فيها القرآن والتراث الحديثي. - الرفض المطلق لكل ما هو غربي والانكفاء على الذات والتمسك بالماضي بكل مثقلات وأحيانًا العيش به. - محاولة المواءمة التلفيقية الترقيعية بين الإسلام والغرب دون الالتفات للاختلاف الجذري في البنية الفلسفية والمعرفية بينهما، ومحاولة ترقيع اصطلاحي لكثير من المعارف الغربية مع متشابهاتها الظاهرية في الإسلام، مما أنتج جنين مشوه غير قادر فعليًّا على التطبيق نتيجة المغالطات والتناقضات الكثيرة أثناء تطبيق هذا النموذج الترقيعي التلفيقي. - تيار استطاع الاستفادة من الأدوات المعرفية المتطورة وتجربة الغرب الغنية في المجال المعرفي والمنهجي، مع الأخذ بالحسبان الاختلاف البنيوي بين المدرستين الإسلامية والغربية، إلا أنه تفاعل تفاعلًا حضاريًّا نديًّا محتفظًا على ثوابته ومستلهمًا مناهجها وأدوات جديدة في إعادة قراءة تراثه واستكشاف كنوزه المخبوءة خلف النمطية والتقليدية والانغلاق على الذات وخلف البيئة والقبليات الحاكمة. فمارس محاولة خروج من الصندوق وانتفع بالأدوات والمناهج المعرفية المتطورة، وتفاعل بضوابط نهضوية وليست اندماجية مشوهة للهوية ولا ماحية لها، بل ناهضة بها وفق متغيرات الزمان والمكان. مفرقًا بين السياسة الغربية ومقاصدها التوسعية الغربية، وبين المعارف والتجربة البشرية المعرفية دون إغفال خلفيات تلك الثقافة وطموحها. إذا نحن لا ننكر أننا أمام مرحلة تاريخية حساسة تعرض المشروع الإسلامي برمته للخطر  في ذهنية الأجيال الحالية والقادمة، التي باتت بحاجة ملحة إلى أن يقدم الإسلام نموذجًا حضاريًّا للدنيا يحل لها كل إشكاليات الراهن ويقدم حلولًا واقعية تلمسها في أبعادها العلمية والعمرانية والذاتية. لم تعد التنظيرات حول أن الإسلام هو الحل، ولا أنه دين حياة مع استحضار أدلة نظرية على ذلك مجديًا نافعًا ومقنعًا، مع انفصال هذه النظريات عن الواقع الحياتي والسلوكي، هذه الفجوة بين النظرية والواقع كفيلة في نسف النظرية مع صحتها من أذهان الأجيال القادمة، ونسف كل منظومة القيم والمبادئ والمعايير والثوابت معها، تتبلور قيم ومعارف ومعايير مختلفة تماما ويتحقق الإحلال الثقافي التام وتتبدل الهوية إلى هوية مختلفة تمامًا عن تلك التي أرادها الإسلام وصنعتها أيدي رجال التاريخ من الأنبياء وتضحياتهم العظيمة لأجل ذلك، فهم سعوا لتقديم نموذج ديني حياتي قادر على حل الإشكاليات التي تواجه الإنسان، لكن تحول بعد ذلك على أيدي المستبدين الدين إلى وسيلة للقمع والتخدير وسلب الإنسان إنسانيته وتعويضه عن ذلك بآخرة لا يمكن أن تكون كما صنعوها الفراعنة، كون الدين لصناعة دنيا عامرة بذكر الله، لتعبر بالإنسان إلى آخرة يكون فيها مخلدًا في النعيم، إلا أن المستبدين الذي استعبدوا الناس باعوا لهم آخرة من صنعهم هم، وعطلوا دنياهم يتحول الدين إلى أغلال العبودية بعد ان جاء ليحرر تلك الأغلال ويصنع إنسانا متألها. التحدي الكبير اليوم هو النموذج العملي للإسلام الذي يقدم برنامجًا عمليًّا سلوكيًّا للحياة، ينهض بالإنسان ويحقق طموحه في الدنيا في العمران والعلم والنهضة. وليس فقط مجرد نظرية بأدلة علمية غير خاضعة للتطبيق.

وأمام هذا التحدي نقف عند مفترق طرق أحدها إلى الآن مهيمن ومستمر في دك الهوية وإحلالها بهويته الخاصة التي تصب في صالح استعباده للعالم وفق شرهه الرأسمالي، والثاني يترنح بين المواجهة والاستسلام.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد