مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
إيمان شمس الدين
عن الكاتب :
باحثة في الفكر الديني والسياسي وكاتبة في جريدة القبس الكويتية

النموذج وأثره في صناعة الوعي، وقفة مع علي عليه السلام (4)


إيمان شمس الدين

الاتباع: معالم وأثار:
قدم الإمام علي نموذجًا للرجل الرسالي،  ليربى محيطه القريب في الدائرة الصغيرة من أصحابه على السلوك الرسالي في علاقتهم به وعلاقتهم فيما بينهم، وهو تأسيس لبناء أمة رسالية تبتعد عن كل العصبيات في تعاطيها مع أهداف الإسلام العليا، وتبتعد عن الجزئيات التي تعيق مسيرتها في تحقيق أهدافها وأسماها على الاطلاق إزاحة كل أنواع الاستبداد والعبودية لغير الله، وربط الإنسان بمحور هو الله، وهو الهدف الذي يحقق الحقيقة الإنسانية وجوهرها في العدالة والكرامة.
فالارتباط بالأمير إذا كان ارتباطًا عنوانه الطاقة الحرارية فإنه سيرتبط بالشخص لا بالنهج، وهو ما سيتضح عند هبوب الفتن العاتية حيث سيسقط هذا الارتباط وستتحول الأهداف الرسالية إلى إهداف مذهبية ذاتية ضيقة.
أما الارتباط الواعي بعلي عليه السلام فهو ارتباط بشخصه كمثل أعلى وبنهجه كمنهج يحمل أهدافًا رسالية عالمية لا يمكنها في الملمات والفتن أن تنحرف أو تسقط حتى لو ضحينا بأنفسنا ولو قتلنا وصلبنا.
لأن عليًّا عليه السلام أسس لمبدأ اِعرف الحق تعرف أهله، أي الأصل هو الحق وفي سبيل هذا الأصل تذوب كل الهويات، وترتفع كل العصبيات.
فعلي عليه السلام رغم أنه سلب حقه الذي فرضه الله تعالى إلا أنه ما تنحى عن مواجهة الانحراف بل اندمج في الدولة لحفظ التجربة الإسلامية من السقوط الكلي، كما أنه حينما خُير بين أن يحارب لجلب حقه بالسيف وبين أن يحفظ بيضة المسلمين حتى لو وقع عليه الجور خاصة، فقد اختار الهدف الأسمى رساليًّا والأقل خسارة في مفهوم الربح والخسارة الإلهي وليس المذهبي أو الشخصي والقبلي، كونه نموذج هُدى لكل المسلمين بل لكل العالم .
فأسس لمنهج السلم والوحدة، فلم يرض بإشهار سيفه وشق وحدة المسلمين رغم الانحراف الشديد عن الوصية الإلهية، لأن دقته في التشخيص وعمقه وارتباطه الواعي بالنبي (ص) أعطاه القدرة على اتخاذ الموقف المناسب وليس الانفعالي.
فمارس الإمام علي عليه السلام في كثير من المفاصل الخطيرة في بناء الدولة الإسلامية ممارسات تعكس عالمية شخصيته كنموذج وليس فقط إسلاميتها.

إذًا هناك فرق بين الارتباط الواعي بالإمام عليه السلام وبين ارتباط الطاقة الحرارية.
"فالوعي : عبارة عن الفهم الفعال الإيجابي المحقق للإسلام في نفس الأمة الذي يتأصل ويستأصل جذور المفاهيم الجاهلية السابقة استئصالًا كاملا. ويحول تمام مواقف الإنسان من مرافق الفكر الجاهلي إلى مرافق الفكر الإسلامي والذوق الإسلامي.
أما الطاقة الحرارية: فهي عبارة عن توهج عاطفي حار، بسعور قد يبلغ في مظاهره نفس ما يبلغه الوعي في ظواهره بحيث يختلف الأمر، فلا يميز بين الأمة التي تحمل مثل هذه الطاقة الحرارية وبين أمة تتمتع بذلك الوعي إلا بعد التبصر.
ومن أبرز مظاهر الارتباط الحراري بشخصية الإمام هو كم المتناقضات الذي يمكن أن يظهر على هؤلاء في منهجهم العام وسلوكهم في مستواهم الذاتي الفردي أو الأسري أو الاجتماعي، وإن كانوا جماعات سيظهر على مستواهم السلوكي سياسيًّا واجتماعيًّا في المجتمع والدولة ومع الأمة وقضاياها المصيرية.
فالوعي مساراته تصاعدية تراكم رؤاه بثوابت لا تنفعل بالحدث ولا تتهاوى أمام الانفعالات، خارج من العصبيات كافة وداخل في معيار الحق والحقيقة، وهي تتفاعل مع الأحداث وتقرأ الراهن بدقة وعقل منفتح موضوعي وتملك قدرة في صناعة الحدث.

إن خط الوعي يحمل عمقًا منهجيًّا ضاربًا في جذور التاريخ وأفقًا رحبًا يستجلب من التاريخ ما يُمَكِّنه  الاستفادة من التجارب والمراكمة عليها، بقراءة واقعية تصنع الحدث وتؤثر وليس تنفعل بالحدث وتتأثر .
فالإمام علي عليه السلام الذي يؤسس لمنهج اتباع الحق لا اتباع الشخص، فهو يؤسس لمنهج شامل يطور وعي الأمة كون الحق له تمظهرات ثابتة وأخرى متحركة وفق الزمان والمكان، فعلي عليه السلام قدم نموذجًا للسلم الواعي الإيجابي وقدم نموذجًا للردع لإرهاب العدو والباطل أمام جبهة الحق دون محاباة ولا تنازل .
واستيعاب هذه النماذج يتطلب ارتباطًا بعلي عليه السلام بالوعي لا بالطاقة الحرارية .
فعبر التاريخ كثر ارتبطوا بعلي عليه السلام لكن قلة ثبتوا على حقه بعد الانقلاب الأول عليه في تحييده عن الحكم، والانقلاب الثاني عليه من قبل معاوية بن أبي سفيان في تحييده عن عقول الناس وصناعتها من خلال شيطنة شخصيته وإسقاطها اعتباريًّا في المجتمع بسبه على المنابر لمدة ٨٠ عامًا، حتى وصل الأمر أن يتساءل أهل الشام " أوعلي يصلي؟"
وكلا الانقلابين على الحق كان منطلقهما التعصب، فهو الذي حيد عليًّا عن الحكم في بداية الأمر وهو ذاته الذي قتل عليًّا في محرابه ومن ثم أقصاه إسلاميًّا ومذهبه وحجم حدود نفوذه العالمي.
 هذا الثبات هو ثبات الارتباط الواعي، الذي يمكن الشخص من خلال ارتباطه بعلي عليه السلام الذي يجسد الحق، يمكنه من قول الحق في كل الظروف .

الارتباط الواعي يحمل في أعماقه النموذج بكليته ويتمظهر في الأزمات تفاعلًا واعيًا ثابتًا لا متناقضًا، أما الارتباط الحراري فهو ارتباط انفعالي يفجر كل ما هو مستتر في الداخل بطريقة تحمل في طياتها متناقضات الحق ومتشابهاته بل تكتنز التعصب لا العصبة.
فحينما نعود للتاريخ لنقرأ عليًّا عليه السلام، فنحن لا نريد من تلك العودة أن تكون عودة جاهلية عصبية محملة بالطاقة الحرارية، وإنما عودة وعي للحق ومنهجه التأسيسي وآليات تأسيسه لهذا المنهج، كي نستفيد من تلك التجربة المعصومة. فالتاريخ فيه سنن تحكم المسيرة البشرية وهي سنن ثابته تجعل في التجربة البشرية منهجًا ثابتًا لكل البشر، وفيه متغيرات زمكانية لا حاجة لنا بها خاصة بتلك الفترة.
ما نريده هو المنهج وتأسيساته وآليات التأسيس والأهداف العليا، وهو ما يتطلب العودة إلى الماضي بارتباط واعٍ بالحق وليس بارتباط حراري بالأشخاص رغم أن عليًّا شخصية تجسد الحق ويجسدها الحق.
عودة اعتبار وإعادة قراءة بوعي منفتح وأفق أرحب وعقل متأمل نستفيد فيها من أدوات الحاضر في قراءة التراث بما يخدم حاضرنا ومستقبلنا ويدفع بأمتنا نحو مزيد من التطور والازدهار، قراءة غير منكفأة على الأشخاص بل مريدة للحق والحقيقة كما هي وكما رسمتها تجربة الماضين كأحداث ووقائع، خالية من إسقاطاتنا وقادرة على مقاربة أحداث التاريخ مقاربة برهانية موضوعية علمية تخضع كل التراث لمبضع جراحة الحقيقة .
فالارتباط الواعي يستطيع أن يستفيد من علي عليه السلام في واقعه في إصابة الحق دون شبهات، بينما الارتباط الحراري يصيب ما يشبه الحق وليس بحق، لذلك يقع في تناقضات في الفكرة والموقف.
إن عالمية الرسالة دفعت النبي (ص) بتحويل مجتمع القبيلة إلى مجتمع عالمي يكون فيه الناس سواسية كأسنان المشط، بالتالي من يخلف النبي (ص) سيؤسس منهجه على أساس عالمية الرسالة وليس مذهبيتها، وهو ما يتطلب التخلص من كل ذرات التعصب ومحمولات الجاهلية، ووضع أهداف رسالية تتناسب وعالمية الحق.

عالمية الحق والحقوق :
الحقوق هي جمع حق والظلم هو سلب الحقوق، فحينما يجسد عليًّا الحق ويتجسد الحق في علي، وعندما نقول إن الحق عالمي فإن الحقوق أيضًا عالمية لا تخص مصداق بعينه إلا ما خصصته الشريعة وفق معطيات خاصة تفرض لجهة حقوقا على أسس معيارية وتسلبها من أخرين وفق مبدأ العدالة .
يقول الإمام علي عليه السلام في خطبته المعروفة بالشقشقية :
أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، وَمَا أَخَذَ اللهُ عَلَى العُلَمَاءِ أَلاَّ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِم، وَلا سَغَبِ مَظْلُوم، لألقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِها، وَلألفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْز.
فالعهد والمنهج العالمي في شخصية علي هو أن لا يقار على كظة ظالم أي استئثاره بالحقوق ولا سغب مظلوم أي هضمه حقوقه فالسغب شدة الجوع.
فلو سلب مسلم حق يهودي أو نصراني فإن منهج علي عليه السلام هو استرداد الحق من المسلم وإرجاعه لأهله.
وهذا يخرج الحق من كل العصبيات ويؤسس لأسس معيارية وقيمية في التعاطي مع المجتمع وفي منهج التعاطي مع قضايا الأمة المصيرية، التي يفترض أن تقوم على معيارية الحق وعدم الظلم لا معيارية المذهب والقبيلة.
فيمكن بقراءة التراث الموضوعية أن  نستلخص جانبا من منهج علي في السلم حينما يكون الخيار وحدة الأمة وإن وقع الجور علينا خاصة مع وجود عدو خارجي متربص بها، ومنهج علي في الحق والحقوق التي تؤسس لعالميتها وعلى أساس تحقيق العدالة.
ونستخلص منهجية تأسيساته لهذه المناهج، لنستطيع الارتباط بعلي عليه السلام ارتباطًا واعيًا متفاعلًا مع الحدث وصانعًا له وفق هذا المنهج الرباني .
فعلي عليه السلام أسس منهجه بمعرفة الحق والارتباط به لا بمعرفة أهله والارتباط بهم، فلا عصبيات في البين، وأسس للمعرفة التي تنقل الإنسان للوعي والحركة على أساس هذا الوعي بل بالاندكاك الكل بهذا الوعي الحركي، وتأسيس هذا المنهج جاء وفق مبدأ الحق والحقيقة والوعي والعقل ونبذ التعصب بكافة أشكاله والعالمية، وجعل الارتباط بهذا المنهج ارتباطًا واعيًا وليس ارتباطًا حراريًّا .
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه دومًا: لماذا رغم وجود شخصيات نموذجية كعلي عليه السلام ما زال كشخصية نموذجية مؤطرًا بإطار مذهبي، وما زال كشخصية لم تطرق أبواب العالمية كنموذج قيمي ومعياري، لا أقلّ على مستوى ثوابت شخصيته ومستوى آليات ومنهج تعاطيه مع إشكاليات عصره التي تتشابه في بعضها مع إشكاليات عصرنا كمصاديق، وتتشابه معها طباقًا كمفاهيم؟

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد