مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
إيمان شمس الدين
عن الكاتب :
باحثة في الفكر الديني والسياسي وكاتبة في جريدة القبس الكويتية

التوحيد التقديس والقداسة (2)


إيمان شمس الدين

وهنا نرى الدقة في الوحدة والاتحاد، والدقة في الدعوة لها والحساسية من الفرقة بين الناس في كل مستوياتهم،كونها مظهرًا من مظاهر الشرك بالله، فالله ينهى عن الفحشاء والمنكر ومن أشد أنواع المنكر الفتنة التي تقوم على أساس الاختلاف الداعي للخلاف والتناحر، حيث عبادة الله وحده تقتضي عدم الشرك به، وعدم الشرك به تقتضي اتباع أمره وحده لكي تتحقق العبادة، وحينما نخرج عن أوامر الله ونواهيه يتحقق الشرك بمراتبه الخفية. ومن مظاهر الفتنة:

١.عدم وجود جو علمي موضوعي يقبل الآراء وتعددها، ويواجه ذلك بالقتل الاجتماعي من خلال أدوات عديدة منها الفتوى، أو التشهير بصاحب الرأي، أو إقصاؤه اجتماعيًّا وعلميًّا.
٢.العصبيات وما ينتج عنها من مخرجات تفتت وحدة المجتمع وتفتك بأمنه بل تصل لدرجة هدر الدماء المحترمة دون وجه حق.
٣.توظيف الدين في المحاججات والنزاعات وممارسة دور الله في حق الناس خاصة المختلفين عقديًّا وعلميًّا وفكريًّا.
٣.عدم اتخاذ الأرباب فيما بينهم على بعضهم البعض:

"فمن حيث أفاد أن المجتمع الإنساني على كثرة أفراده وتفرق أشخاصه أبعاض من حقيقة واحدة هي حقيقة الإنسان ونوعه فما أودعته فيه يد الصنع والإيجاد من الاستحقاق والاستعداد الموزع بينهم على حد سواء يقضي بتساويهم في حقوق الحياة واستوائهم على مستوى واحد، وما تفاوت فيه أحوال الأفراد واستعدادهم في اقتناء مزايا الحياة من مواهب الإنسانية العامة التي ظهرت في مظاهر خاصة من هاهنا وهناك وهنالك يجب أن تعطاه الإنسانية لكن من حيث تسأله، كما أن الازدواج والولادة والمعالجة مثلًا من مسائل الإنسانية العامة لكن الذي يعطى الازدواج هو الإنسان البالغ الذكر أو الأنثى، والولادة يعطاها الإنسان الأنثى والعلاج يعطاه الإنسان المريض.
 وبالجملة أفراد الإنسان المجتمع أبعاض متشابهة من حقيقة واحدة متشابهة فلا ينبغي أن يحمل البعض إرادته وهواه على البعض إلا أن يتحمل ما يعادله، وهو التعاون على اقتناء مزايا الحياة، وأما خضوع المجتمع أو الفرد لفرد أعني الكل أو البعض لبعض بما يخرجه عن البعضية، ويرفعه عن التساوي بالاستعلاء والتسيطر والتحكم بأن يؤخذ ربًّا متبع المشية، يحكم مطلق العنان، ويطاع فيما يأمر وينهى ففيه إبطال الفطرة وهدم بنيان الإنسانية.
 وأيضًا من حيث إن الربوبية مما يختص بالله لا رب سواه فتمكين الإنسان مثله من نفسه يتصرف فيه بما يريد من غير انعكاس، اتخاذ رب من دون الله لا يقدم عليه من يسلم لله الأمر.
فقد تبين أن قوله: ﴿ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابًا من دون الله﴾ يفصح عن حجتين فيما يفيده من المعنى: إحداهما كون الأفراد أبعاضا، والآخر كون الربوبية من خصائص الألوهية. "الميزان في تفسير القرآن سورة آل عمران آية ٦٤
وهنا إقرار بوحدة الجميع من حيث القيادة لتكون ربانية المصدر، ولكنها وحدة ليست لاغية لعقل الإنسان، ولا لإبداعه وإنما وحدة لاغية لسلطة الآخرين وفق أهوائهم ومواقع نفوذهم وقدراتهم على من هم أقل قدرة ونفوذًا، بطريقة تسيطر على الآخرين سيطرة هيمنة وإلغاء وإقصاء وقتل بما يضر بإرادة الإنسان وحريته واختياره ويحد من قدرته على الإبداع بل تلك الربوبية التي تكون في عرض الله تكون حاجبة للحق والحقيقية، وبالتالي مسخرة للإنسان في عرض إرادة الخالق، وفي غير نهجه وما حدده من طريق مختصر في الوصول إليه، بل هو مظهر من مظاهر الشرك حيث يضع المهيمن بقدراته ونفوذه نفسه في عرض الله فيملي إرادته ومنهجه وتعليماته ومعاييره لما يراه هو من حق وحقيقة.
وهنا تنشأ الفتن ويقع الخلاف وتضيع الحقيقة والحق ويدخل الناس في النزاعات التي تصرفهم عن أصل الأهداف التي من أجلها وجدوا في هذه الدنيا.

* العلم بين قداسة العقل وتقديس العلماء
"يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم"يوسف ـ ٤٠
"اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو" التوبة ـ ٣١.
إن ختم النبوة لا يعني انتهاء مسيرة السير إلى الله، بل حدد المعصوم معالم المسيرة ومواصفات من يكمل من بعده تلك المسيرة، وكان للعقل دور كبير في التشخيص وتحديد من وكيف ولماذا، فالعلم معيار الاختيار، ولكن أي علم ومن أي عالم؟
عن الإمام الهادي (عليه السلام):
"لولا من يبقى بعد غيبة قائمنا (عليه السلام) من العلماء الداعين إليه، والدالين عليه، والذابين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلا ارتد عن دين الله".ميزان الحكمة جزء 3 صفحة 2087.

لقد تمايز علماء الدين من خلال روايات أهل البيت عليهم السلام - الثقل الأصغر- بدورهم الريادي في حفظ الأمة من الانحراف ودعم مسيرتها الوحدوية والمتماسكة في وجه أي عدو يريد الفتك بها. وكلمة ورثة لها أبعادها التي تحدد الدور الحقيقي الذي يجب أن ينهض به العالم لكي يكون وارثًا للنبوة وصمام الأمان للأمة، فالوراثة هنا ليست من السنخ المادي وإنما من سنخ آخر يختلف عن معاني الوراثة المادية. فوصف العلماء بأنهم ورثة الأنبياء يحدد الدور الذي يجب أن يقوم به العالم لكي يصبح الوريث الحقيقي للنبوة ولكي نحدد هذا الدور لا بد لنا من إضاءة سريعة ومقتضبة على دور الأنبياء في أقوامهم وما هي المسئوليات الإلهية التي أنيطت بهم. ونستطيع أن نحدد دورهم من خلال القرآن الكريم:
1.(ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) النحل(36). فيتبين أن أهم دور وأبرز دور يلعبه الأنبياء عليهم السلام هو تقوية أسس التوحيد ومكافحة كل نوع من أنواع الانحراف في هذا الصعيد.
2.(وهو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) الجمعة(2). فيتبين أن من وظيفة النبي أن يطلع الناس على المعارف والرسالات الإلهية ويعلمهم التزكية وطرق تهذيب النفس.
3.(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) الحديد(25). فكل ما أمد به الله رسله من بينات وكتاب وميزان هدفه إقامة القسط في المجتمع لإنساني دون أن يميز في ذلك بين شخص وآخر لأن المقياس في إقامة العدل هو الإنسانية.
4.(كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) البقرة(213). وهنا إشارة لدور النبي في الفصل في الخصومات وحل الخلافات بين الناس كل الناس.
5.(رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما) النساء(165). ومن هنا نعلم أن الله أراد أن يتم حجته الظاهرية علينا بإرسال الرسل والأنبياء.

هذه إطلالة سريعة لأهم الأدوار التي قام بها الأنبياء في المجتمعات الإنسانية لكي نستطيع بعد ذلك أن نتلمس الدور الذي يجب أن ينهض به العالم في مجتمعه ليكون فعلًا وارثًا للنبوة. فالعالم في نظر الإمام الهادي عليه السلام له دور محوري في المجتمع المحيط به وسيرة أئمتنا عليهم السلام دالة دلالة واضحة على ذلك، ولقد تعرضت مسيرة العلماء عبر التاريخ للكثير من التشويهات المتعمدة لتحييد دورهم البناء في المجتمع لحمايته من أي انحراف يعصف بمسيرته ويأخذه نحو الهاوية وأهم ما تعرضت له هذه المسيرة هو ما ذكره الإمام الراحل الخميني قدس سره حيث قال "إنهم يعرضون الإسلام بشكل سيئ ويعرضون المعمم بشكل سيئ، لماذا؟ لأن ما يقف في وجههم هو الإسلام، ولأن من يريد تطبيقه هو المعمم، وأولئك لا يريدون أن يتحقق هذا الأمر، لهذا يريدون عرض الإسلام بشكل سيئ ليبتعد الناس عن الإسلام وليهمش المعمم، ويبقون هم فيفعلون ما يحلو لهم"
ومن هم هؤلاء الذين يقومون بهذا الدور الخطير؟ إنها الثقافة والمفاهيم الغربية التي بتنا نتلقفها تحت مسميات الحداثة الغربية والتطور ومن هذه المفاهيم الخطيرة هي مفهوم "رجال الدين" الغربي، الذي يحصر عمل "رجال الدين" بالجانب المعنوي فقط دون أن يكون له علاقة بالسياسة والاجتماع والاقتصاد، على قاعدة (ما لله لله، وما لقيصر لقيصر). وبالطبع هذه الثقافة تسربت لحوزاتنا العلمية فترة غير قصيرة من الزمن ونبه البعض من العلماء ومنهم الإمام الراحل قدس سره إلى خطورة تهميش العلماء وهذا واضح من كلماته السابقة، وأعتقد أن الغرب تنبه بشدة لأهمية هذا الدور وعمل بكل ما يملك من قوة في تسريب هذه المفاهيم المنحرفة التي لعبت دورًا في تهميش دور العلماء، وقد وقع الكثير من الناس فريسة هذا المفهوم الغربي دون شعور منهم بذلك من خلال تهميش دور علماء الدين وحصر عملهم بالجانب المعنوي أو بالأمور العبادية والفردية كما يحصل في كثير من الأحيان.كما أن بعض العلماء أيضًا حجموا دورهم في حدود معينة وانكمشوا في دورهم ووقعوا فريسة لهذا المفهوم الغربي لذلك يقول الإمام الخميني (قدس سره) مخاطبًا مجموعة من العلماء:
"اقتحموا الأمور، تدخلوا في الشؤون، لا يصح أن يقول أحدكم: أنا فقيه ولا شأن لي بغير ذلك، فأنت فقيه، ولكن يجب أن تتدخل في الشؤون، يجب أن تتدخل بمقدرات الناس، فأنتم حراس الإسلام، ويجب أن تحرسوه".

فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
"العلماء ورثة الأنبياء، يحبهم أهل السماء، ويستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا إلى يوم القيامة". ميزان الحكمة ,ج3 , ص2067
وفي رواية أخرى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
"العلماء مصابيح الأرض، وخلفاء الأنبياء، وورثتي ورثة الأنبياء" المصدر السابق.

وهذا دليل واضح على دور العلماء المحوري والهام في حفظ مسيرة الأنبياء بل وإكمالها لأن الخليفة وظيفته إكمال ما بدأه المستخلف والسير على دربه. وكلمة مصابيح الأرض لها معاني سامية لأن المصباح دوره هو الإنارة لكي يستطيع الإنسان أن يرى كل ما حوله على حقيقته فيستطيع أن يسلك الطريق الأقصر والأسلم نحو غايته وهدفه وهذا هو دور العالم إنارة الطريق أمام الناس لكي يروا دربهم الصحيح والحقيقي نحو الهدف الذي وضعه الله لسعادة الإنسان.
وقد أشار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى هذا الدور في عدة روايات ففي بعضها:
"إن مثل العلماء كمثل النجوم في السماء يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة" ميزان الحكمة,ج 4 ,ص 2840.
إذا ماذا لو لم يكن العالم بهذا المستوى من المسئولية ولم يقم بدوره الموكل إليه على أكمل وجه فكيف ننظر إليه؟

إن الإمام الخميني (قدس سره) يعتبر أن العالم حتى لو لم يقم بأي عمل على المستوى الثقافي أو الاجتماعي أو غيره، فهو مفيد بنفس وجوده بين الناس، فوجوده بين الناس بحد ذاته موعظة تدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى، يقول في بعض كلماته (قدس سره):
"إذا وجد عدة معممين متدينين جيدين في مجتمع ما أو مدينة ما، وعندما يوجد عدة معممين يهتمون بالدين، وكانوا عقلاء وعاملين بعلمهم، فلا داعي عندها للموعظة أساسًا، فوجودهم بذاته يشكل موعظة، لقد رأينا أشخاصًا يترك وجودهم بذاته أثرًا في الإنسان، كان في مدينة قم معمّمون يؤثرون بوجودهم وأساسًا يكفي للإنسان موعظة أن ينظر إليهم".
فمجرد النظر إلى العلماء هو موعظة وعبادة، وقد ورد في الروايات عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "النظر إلى وجه العالم عبادة",ميزان الحكمة,ج,3 , ص 2070 . والنظر هنا ليس بمعنى النظر المادي فكلمة العبادة تدلل على أن النظر هو النظر المعنوي بمعنى الاستفادة من علمه ووجوده لتتحول هذه الاستفادة وتترجم إلى واقع عبادي في شتى شؤون الحياة وهنا النظر غير مقتصر على الرجل فحتى المرأة مخاطبة بهذا الحديث إذ أن دور الأنبياء كان للإنسانية كافة دون فرق بين رجل وامرأة وكذلك دور العلماء للإنسانية كافة دون أن يفرقوا بذلك بين رجل وانثى، ولكي نستطيع أن نحدد صلاح العلماء ومدى تأثير علومهم علينا أن ننظر إلى واقع المجتمع ومدى قربه أو بعده من الله، علينا إن ننظر إلى ثقافة أفراده في كافة المجالات وأن نراقب مدى تقدم المجتمع من تخلفه ومدى فساده من عدمه لأن كل ذلك يؤشر على قيام العالم بدوره من عدمه.

وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
"من استقبل العلماء فقد استقبلني، ومن زار العلماء فقد زارني ومن جالس العلماء فقد جالسني ومن جالسني فكأنما جالس ربي" ميزان الحكمة جزء 3، صفحة 2085
والمجالسة هنا لكي تكون عبادة لا بد أن تكون مجالسة علمية يستفيد منها الجليس من علم من يجالسه ومن ثقافته ويترجم ذلك على واقعه الاجتماعي من خلال تفاعله مع محيطه.
إضافة لمحاولات الغرب في حرف وظيفة العالم، فهناك أيضًا محاولات من داخل الجسد الديني في رسم خريطة منحرفة للعالم تمثلت في التالي:
١.المدرسة الأصولية التي تعاملت مع ظواهر النصوص من جهة، ومذهبتها من جهة أخرى دون أن يكون للعقل دورًا بارزًا قادرًا على مواءمة النص مع الزمان والمكان.
٢.مدرسة تطرفت في عقلنة النصوص وترقيعها بنظريات غربية بحجة المواكبة والمواءمة.
ومن كلاهما ظهرت لنا إرهاصات انعكست على فهم هؤلاء للشريعة ومن ثم بناءهم على هذا الفهم منهجًا عمليًّا انعكس في كثير من الأحيان على محيطهم الاجتماعي بل تسرب للمكونات الاجتماعية في دول أخرى نتيجة عملية التقليد في الأحكام من قبل المكلفين، والتي تعدت للتقليد في المواقف والآراء العلمية دون إعمال العقل من قبل المكلف.

لذلك اكتسب العالم عبر التاريخ موقعية رمزية في أذهان الناس لها خلفياتها الدينية وارتكازاتها الشرعية، وهو ما ينقلنا لمقدمة مهمة حول الرمز كمفهوم وكمؤثر في السلوك الاجتماعي، ومهيمن وفق الأعراف على العقول.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد