مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
إيمان شمس الدين
عن الكاتب :
باحثة في الفكر الديني والسياسي وكاتبة في جريدة القبس الكويتية

التوحيد التقديس والقداسة (3)


إيمان شمس الدين

فمن هو الرمز ؟
*الرمز
يعرف قاموس اللغة عند العرب مفردة "الرمز" بأنها "الإشارة والإيماء سواء بالشفتين والحاجب". وهي بهذا المعنى اللغوي غير المعنى الدارج استخدامه بالإشارة إلى "المثل" أو القدوة أو النموذج، سواء كان مثلاً سياسياً أو دينياً أو ثقافياً أو مجتمعياً. ورغم أن الرمز كلمة صغيرة إلا أنها غرست في عمق الثقافة الإنسانية على مر التاريخ حيث تعبر كل ثقافة عن رمزها بطريقة تعكس هويتها الجمعية ومكونها الثقافي، والرمز كما يقول بعض المتخصصين: "يتم صناعته وفق آلية غير محددة، فهو إما يرتبط بقوى خارقة أو بقيمة إنسانية أو بمقدار حاجة الناس لتمثل حضوره في لحظة ما، وعلى هذا فإن أي رمز هو نتاج تطور تاريخي ووعي جمعي وصياغة مشتركة، قد تستغرق طويلاً، وتختلط فيه تقاليد الوعي والمصالح، فيثمر ذلك رموزاً مقدسة، أو محترمة، أو أنها من عناصر التميز في مختلف مجالاته. أو أن ثقافة الناس أحياناً ما تصنع من شخص ما رمزاً دون أن يكون ذلك في الحسبان. وقد يتورط المرء في ذلك".

وبناءً على ما سبق قد يكون الرمز نتاج عدة أسباب منها:
1.تـأسيس نصي منطلقه القرآن الكريم وهو ما نطلق عليه الرمز المقدس نظراً لتقديس رمزيته من قبل الله تعالى لا لبعده البشري الإنساني بل لما يحمله من هدي إلهي قال تعالى: "أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو ذكرى للعالمين "(الأنعام 90)، فالآية الكريمة تشير إلى ذلك حيث أمر الله تعالى رسوله بالاقتداء بالأنبياء السابقين لا بشخصهم بل بما يحملوه من هدى نسبه الله تعالى إلى نفسه حيث قال أولا ألئك الذين هدى ثم بعد أن قرن الهدى بذاته المقدسة أمر رسوله صلى الله عليه وآله بالاقتداء بهداهم المنسوب لذاته المقدسة لا بالاقتداء بشخصهم، وأسبغ القداسة على شخوص الأنبياء عليهم وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام والاقتداء بهم في هدى الله سبحانه لا فيما من عند أنفسهم وهذا يندرج على المعصومين عليهم السلام وهو ما نطلق عليه الرمز المقدس أي المعصوم. أي أن التعلق المطلوب هو تعلق بالرسالة الهادية وليس تعلقاً بشخص النبي وهذا ما تشير له الآية الكريمة "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين" آل عمران آية 144 وقوله تعالى "ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون" آل عمران آية 79 وقوله في سورة الإسراء آية 94 "وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا ابعث الله بشراً رسول" وقوله تعالى"قالت لهم رسلهم أن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون" إبراهيم آية 11 وقوله تعالى" قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي إنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين"فصلت آية 6 . ويروى عن الإمام الصادق عليه السلام "كان رسول الله يأكل أكل العبد ويجلس جلوس العبد ويعلم أنه عبد" وقد كان رسول الله تعالى مراراً يؤكد على ذلك حتى يعلق النفس البشرية بمركز التوحيد والهداية وهو الله تعالى ويبتعد بها عن الشخصنة وتقديس رموز لم تضف عليه صبغة القدسية إلا بهدى الله تعالى لهم واختيارهم على أسس إلهية.   

2.تأسيس ناتج عن الاقتداء والسير على سيرة الأنبياء والمعصومين عليهم السلام وهو ما يطلق عليهم القرآن الكريم اسم الأولياء أو عباد الله المخلصين، والصادقين وغيرها من الصفات التي يتصف بها الإنسان لا بذاته وإنما بفعل قام به وربطه بنهج المعصوم عليه السلام المرتبط بهدى الله تعالى لذلك صبغ بصبغة القدسية ولكن ليس بإطلاقها بمعنى المعصومية، أي أن هذا الرمز عرضة للخطأ والصواب وعرضة للانحراف ومثال بلعم بن باعورة من أوضح الامثلة التي يشكلها هذا الرمز حيث حاز بلعم على حرف من أحرف اسم الله الأعظم إلا أنه أخلد إلى الأرض وانحرف، وتقييم انحراف الرمز من عدمه يعتمد على مدى الوعي الذي يحمله الناس في فكرهم وكينونتهم ومدى ثقافة المجتمع الذي يوجد به هذا الرمز.

3.تأسيس ناتج عن حاجة الناس، فهذا رمز فرضته حاجة الناس دون النظر إلى كينونته الثقافية والإنسانية ويجب أن نعرف أن دور الرمز كما يقول الدكتور علي شريعتي "يتضاءل كثيراً في المجتمعات المغلقة وهي المجتمعات الدينية القديمة التي تتصلب فيها التقاليد والأعراف الاجتماعية نظراً لامتزاجها وتشابكها مع الدين، ويصبح من الصعب جداً تغييرها والناس في هذا النوع من المجتمعات تابعون منقادون للأعراف والتقاليد الاجتماعية إلى درجة لا يستطيعون معها الحفاظ على استقلالية شخصيتهم أو لعب دور حيوي فاعل في التحولات الاجتماعية، وفي وضع كهذا ينقاد الرموز لتلك الأعراف والتقاليد ويصبح قصارى جهدهم افتعال الوقائع والأحداث. لكن كل جهودهم لا يمكن أن ترقى إلى مستوى التأثير على التقاليد والأعراف الاجتماعية والبنى التحتية للمجتمع ومكوناته الرئيسية، وبعبارة أدق، قد يكون بوسع هؤلاء تغيير الوحدات والمؤسسات وأما النظم والتركيب العام للمجتمع فيبقى بمأمن عن أن تطاله يد التغيير".
وهكذا نرى أن قضية الرمز مرتبطة في ذهنية الفكر الإنساني منذ القدم، فجاء الإسلام ليعالجها بموضوعية ليبتعد بها عن الشخصنة والتقديس، فجعل الرابطة بين الرمز والإنسان تشتد وتضعف بمدى قرب وبعد هذا الرمز عن الهدى الإلهي. فالأصالة في الإسلام للهدى الإلهي وليس لشخصانية الرمز ولكن هذا لا يعني عدم الاهتمام بالرمز كقابلية وقدرة على حمل الأمانة ولكن الكلام عن الوقوف علي شخص الرسول وعدم الوصول للمطلوب وهو الله تعالى. وكما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "يعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال" فالأصالة في معرفة الرجال تكون بمدى قربهم من الحق ولا أصالة لذات الرجل أو شخصه، كما قال عليه السلام" ما ترك لي الحق من صديق"مبيناً أن الأصالة للحق وليس للصديق في فكره عليه السلام.
فلا هداية دون هدي الله، واقتضى أمر الله ان تكون هدايته عبر أنبيائه المؤهلين لحمل أمانته، وأهم وظيفة لديهم هي هداية الناس إلى الله لا إلى أنفسهم، ولكن لا يمكن أن نصل إلى الله إلا عبرهم كونهم بواباته.

لذلك كان السير بالناس إلى الهدى وربطهم بالرسالة ورجالاتها يتطلب تأهيلاً عالياً طرفانياً:
١.تأهيل من قبل العالم
٢.تأهيل من قبل المكلف
فالأول حامل الأمانة الإلهية، ووسيلة ربط الناس بالمُرسِل والرسول والرسالة، والثاني هو المتلقي لهذه الأمانة ويمتلك العقل كوسيلة للتلقي وهو ما يعني النهوض بمستواه العلمي إلى مستوى قادر على المراقبة والمحاسبة والغربلة لضبط إيقاع الأول.

إذاً هذه الأهمية العميقة لموقع العالم في الأمة تعكس أيضاً خطورة وظيفية تكليفية على جموع العلماء تتطلب منهم التركيز على عدة أمور أهمها:
١.الدعوة إلى الله بأدوات الله ووفق إرادته، وهو ما يتطلب الحذر الشديد في التخلي عن الذاتية حتى لا يتحول العالم إلى داعية لذاته فيصبح له قداسة تمنع مناقشة أفكاره ونقدها وتقييمها من قبل المماثلين له أو حتى المطلعين.

٢.التركيز على كون ما يطرحه هو فهمه للشريعة وليس عين التشريع، خاصة مع بعدنا عن عصر التشريع، وضيق مساحة القطعيات الشرعية ليكون في طول الله لا في عرضه. ومقتضى هذا هو انفتاح باب العلم المبني على الدليل والبرهان وفتح آفاق العقل للإبداع والتطوير وفق ضوابط البحث العلمي.

٣.عدم انسداد باب العلم والرأي من خلال قواعد المشهور والإجماع، كون سيرة المعصومين رغم معصوميتهم كانت منفتحة على كل الآراء بالحوار والمناظرات ومحاكاة العقل أمام كل الناس، فهدفهم هو التبيان والهداية لكل الناس، والنهوض بهم إلى مستوى المتعلم على سبيل النجاة، وههنا لسنا بصدد نكران القاعدتين (المشهور والإجماع) لكننا بصدد ترشيدهما ليكونا سبباً للعلم لا سبباً لمنعه.

٤.عدم ممارسة الإرهاب الديني المتمثل بسلاح الفتوى ضد الآراء التي تطرح في عرض الآراء المشهورة والمجمع عليها خاصة على مستوى الفكرة، بل مواجهة المنحرف منها سواء انحراف فكري أو تشريعي بالبرهان والدليل العلمي، دون الانتقال بعد إسقاطها كفكرة إلى إسقاط صاحبها إلا إذا تحول إلى مفسداً لا يمكن رده إلا بالتعذير الشرعي حفاظاً على الأمن الاجتماعي وهو ما يحتاج دقة عالية في تشخيص الانحراف ومصاديقه وتشخيص الإفساد ومصاديقه، مع الأخذ بالحسبان المواكبة العصرية للتشخيص في كافة الحالات.
فالعالم كونه وريث الأنبياء فوراثته تلزمه باتباع النهج العملي للمعصوم وليس فقط القولي، بل تلزمه باعتبار مرجعية القرآن المعرفية في التشخيص والعرض.
ولكن هل وظيفة العالم ووجوده تلغي دور عقل المكلف ووظيفته في الرقابة والتقييم؟

إن عدم اتخاذ الأرباب في العلاقات الإنسانية هي قاعدة تشمل أهل الكتاب وغيرهم، لأن الأصل في التوحيد هو نفي الشريك، فالأنبياء وسائط فيض في طول الله واتباعهم  ـ طالما كانوا في طوله ـ هو عين التوحيد، وما إن يصبح أي نبي في عرض الله فإن ذلك بات مصداقاً للشرك واتباعه يعتبر شركاً جليًّا وإن كان وجود النبي في عرض الله شركاً خفيًّا قد لا يسع الكثيرين تشخيصه، فكثيراً ما تحول النبي (ص) والمعصومين من خلال بعض الممارسات العلمية أو العقدية في عرض الله من قبل بعض العلماء والنخب وعامة الناس.
وكذلك العلماء وغيرهم ممن يتسنمون مواقعاً متقدمة في قيادة الأمة فطالما دعوتهم لله تنتطلق في طوله، فإن اتباع هؤلاء يكن عين التوحيد، وهو ما يتطلب وعياً عالياً من الناس كي يملكوا أدوات المراقبة والتقييم.
وحيث أن العلم والعمل بهذا العلم هو معياراً أساسيًّا في تشخيص العالم، فإن عملية التشخيص ذاتها تقع مسؤوليتها على المكلف وهو ما يلزم أيضاً منه امتلاك مفاتيح العلم وقدرة على التشخيص.

فكيف يمكن أن يتحول الوعي إلى قاعدة للتكامل الإنساني وإرساء أسس التوحيد، ونفي القداسات المانعة للعلم، وتمييز المقدسات الموهومة عن تلك الحقيقية كي نتخلص من كل أشكال الربوبية المغايرة والتي تقع في عرض ربوبية الله تعالى، حتى لا نقع في صناعة فراعنة بأشكال ظاهرها ديني ونمنع كل أنواع التسلط الخارج عن إرادة الله؟

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد