مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
إيمان شمس الدين
عن الكاتب :
باحثة في الفكر الديني والسياسي وكاتبة في جريدة القبس الكويتية

التوحيد التقديس والقداسة (4)


إيمان شمس الدين

*الشهادة والرقابة

عن أبي جعفر عليه السلام قال: لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك، ولا أكملتك إلا فيمن أحب، أما إني إياك آمر، وإياك أنهى وإياك أعاقب وإياك أثيب.
الكافي ج1، كتب العقل والجهل الحديث رقم 1
وقال الحكيم رفيع الدين النائيني (قدس) معرفًا العقل: يطلق على حالة في النفس داعية إلى اختيار الخير النافع بها يدرك الخير والشر ويميز بينهما. ويقابله الجهل، وقد يطلق ويراد به قوة إدراك الخير والشر والتمييز بينهما.
ومما سبق ندرك أن إنسانية الإنسان أحد وأهم مصاديق تحققها هو العقل المدرك المميز بين الخير والشر والحق والباطل.
فالعقل يمثل مركز الوعي في ضمير الأمة وهذا المركز في وعي الإنسان يلعب دورًا هامًّا في المسيرة البشرية على الأرض نحو الله.
فالإسلام هو باب متاح دخوله للجميع بمجرد النطق اللساني بالشهادتين المتاح استخدامه لكل البشرية، ولكن الإيمان مرتبة أعلى من الإسلام ويحتاج إلى إعمال العقل والفكر من أجل الدخول في بابه وأيضًا هذا متاح للجميع ولكن القليل من يستفيد من هذه الطاقة العقلية الفكرية. فلذلك ما أكثر المسلمين وأقل المؤمنين، وهذا المجهود العقلي يجب أن يوجه توجيهًا سليمًا ليحقق الهدف المطلوب منه.
ولقد بعث الله الأنبياء والأوصياء كشهداء على الأمة ليكملوا مسيرة العقل نحو الله تعالى فخاطب الناس بعقولهم ليوجه وعي هذه الأمة بضميرها العقلي نحو الفطرة السليمة وهي فطرة التوحيد.

ولقد حدد الله تعالى مرتبة الشهادة على الأمة بثلاثة عناصر:
1.النبوة
2.الإمامة
3. المرجعية
والشهيد هو المرجع الفكري والتشريعي من الناحية الإيديولوجية كما يقول الشهيد محمد باقر الصدر، وهو المشرف على سير الجماعة وانسجامها إيديولوجيا مع الرسالة الربانية ومسؤول عن التدخل لتعديل المسيرة أو إعادتها إلى طريقها الصحيح إذا واجه انحرافًا في مجال التطبيق.

ولكن تختلف النبوة والإمامة عن المرجعية بعدة نقاط أهمها:  
أن النبي والإمام معينان من الله تعالى تعيينًا شخصيًّا وأما المرجع فهو معين تعيينًا نوعيًّا فالإسلام حدد الشروط العامة للمرجع وترك أمر التعيين والتأكد من انطباق الشروط إلى الأمة نفسها. لذلك، المرجعية كخط قرارًا إلهيًّا وكتجسيد في فرد معين قرارًا من الأمة. فهي عهد من الله إلى الخط وليس إلى الشخص وأما تحديد الشخص عائد للأمة. المرجعية تمارس دور الشهادة والأمة تمارس دور الرقابة، ولكي تمارس الأمة دور الرقابة يجب أن تصل إلى درجة من الوعي كي تمارس هذا الدور. والوعي يستمد إدراكه من العقل وهو من ثقافته الإسلامية عبر الوحي المتجسد في النبوة والإمامة والقرآن.
 إن الأمة لا تمنح على الأغلب الزعامة المتمثلة بالمرجعية مجانًا ولا يمتلك الفرد (المرجع) قيادتها ويحتل قلوبها بدون عطاء سخي منه تستشعره الأمة في مختلف مجالاتها وتستفيد منه في حل مشكلاتها والحفاظ على رسالتها. إذًا فهناك علاقة متبادلة بين الأمة ومرجعيتها، وقس على هذا علاقة القاعدة بقيادتها، فكلما كانت القيادة متفاعلة مع القاعدة في كل المجالات المتاحة للتعامل كلما كانت القاعدة بوعيها متواصلة مع القيادة وكلما انفصلت واستقلت القيادة عن القاعدة وكبرت الهوة بينهما كلما قل ولاء القاعدة لقيادتها وانصياعها لها بل زاد تمردها وفقدت القيادة ولاء قاعدتها. وذلك لأنه ليس لفرد ولا لجموع في الإسلام أن يستأثر من دون الله بالحكم فإن كانت المرجعية كما ذكرنا آنفًا عهدًا ربانيًّا للخط وليس للشخص فكذلك القيادة هي تعيين للموقع وليس للشخص ولكنها كتجسيد في فرد معين قرار للقاعدة وللأمة، فمنصب القيادة أو الإدارة يكون بانتخاب الأمة لشخص القائد، إذ أن تحرير الإسلام للإنسان في المجال السياسي إنما يقوم على أساس الإيمان بمساواة أفراد المجتمع في تحمل الأمانة الإلهية وتضامنهم في تطبيق أحكام الله تعالى (فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته). والمساواة السياسية في الإسلام تعني المساواة في تحمل الأمانة ونتائجها تحرير الإنسان في الحقل السياسي من سيطرة الآخرين والقضاء على ألوان الاستغلال السياسي وأشكال الحكم الفردي والطبقي. ولذلك نجد أن خط الشهادة المتمثل بالمرجعية في فرد بقرار من الأمة والتي من المفترض أن تمارس دور الرقابة على هذا القائد إذا امتلكت الوعي المتمثل بإدراك العقل لتستطيع برقابتها أن تستشف مواقع ومواطن الخلل، ويقوم القائد الشهيد على المسيرة ليقوم الاعوجاج ويسدد المسيرة.

وبهذا التبادل الوظيفي الإلهي بين القيادة والقاعدة في ممارسة الدور الإلهي في الاستخلاف على الأرض تتحقق الأهداف الأصيلة من عملية الاستخلاف، وهذا كله يبتني تفاعله على الدور الريادي للعقل في هذه العملية، وهذه إحدى وظائف العقل وأهمها في المسيرة الإنسانية في تكاملها وهو سر التواصل بين القيادة والقاعدة، فإن عطل العقل أو أسيئ استخدامه أدى ذلك إلى استئثار فئة بمراكز القرار وإقصاء الفئات الأخرى الواعية واختيار الأقل وعيًا والمسلمة تسليمًا مطلقًا لتمارس دور الانقياد والطاعة العمياء للفئة المستأثرة بمراكز القرار، وبما أن الاستئثار والمركزية جاءتا نتيجة استخدام العقل بشكل سيئ فبالتالي تكون القوة أحد أسباب استئثار هذه الفئة بمراكز القرار وتكون أغلبية الفئة المقصاة هي من الكفاءات التي تحمل مقدارًا من الوعي والإدراك العقلي وهذا هو أحد أهم أسباب إقصائها.
والتسليم المطلق لا يكون إلا لمقام المعصوم المتمثل بالنبوة والإمامة، أما في مقامات الشهادة الأخرى لا يكون التسليم مطلقًا لذلك قامت الأمة في مرتبة الشهادة المتمثلة بالمرجعية بوظيفة الرقيب، والتسليم المطلق لغير النبي والإمام لا يتناسب مع الإبداع والتقدم المجتمعي في جميع الأصعدة، ولمعالجة هذا الخلل إن وجد وجب على الفئات المثقفة الواعية، نشر ثقافة الإدراك العقلي ورفض سياسة التسليم المطلق المعطلة لاستخدام العقل في عملية الإبداع والتقدم، ورفض التقديس وسياسة التخدير العاطفي المتمثلة بدغدغة العواطف وتعطيل الفكر لكي يمارس العقل دوره في ريادة الأمة على ضوء المعرفة لتبدع وتمارس دورها الرقابي.
وعلى ضوء ذلك نستطيع أن نرتقي إلى مستوى كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ونمارس دور ((إني جاعل في الأرض خليفة)). لمزيد من الاستفادة والاستزادة يمكن مراجعة: الإسلام يقود الحياة والمدرسة الإسلامية للسيد الشهيد محمد باقر الصدر.

*النقد البناء ومسيرة التطور:
مما سبق نستطيع الخلوص إلى نتائج هامة على الصعيد العملي:
١. إمكانية إيجاد أرضية مشتركة على أساس التوحيد وعدم الربوبية التي تعني السلطة والتسلطة بكافة أشكالها والتي هي تقع في عرض ربوبية الله، للتعاون في داخل الجسد الإسلامي وفي خارجه مع الديانات الأخرى.
٢.مركزية التوحيد في تحديد معالم القيادة الربانية، وتحديد مراتبها الوجودية التي تكون في طول قيادة الله، بحيث تختلف في قداستها من مرتبة لمرتبة، فحينما تكون المعصومية والعلم المحيط للأنبياء والأوصياء، فهي للمرجعيات الدينية والعلماء بمرتبة الشهادة غير المعصومة والمكلفة بالنهوض بالناس إلى مستوى المتعلم على سبيل النجاة كي يمارسوا دورهم الاستخلافي في الرقابة والنقد والتطوير.
٣. الانتخاب الإلهي هو للموقع والوظيفة وليس للأشخاص، وهو ما يتطلب انفتاح أبواب العلم والسؤال والبحث بما يتناسب مع كل عصر بحيث يستطيع النص بمعاومنة العقل الإجابة على التساولات الملحة والتي تمثل حاجات إنسانية واقعية وتستجيب للواقع دون الركون للماضي ومقتضياته، بل فقط للثوابت بما تمثله أساس قاعدي للدين، وهو ما يتطلب استمرار النقد لمكتسبات العقل من الشرع كفهم، وكقواعد أصولية في استنطاق النص والاستنباط،خاصة فيما يتعلق بقاعدتي المشهور والإجماع وما يعنيه ذلك من إقفالات غير مباشرة لباب الإبداع والتطوير بل يمنع الجرأة في الخروج عن المألوف الذي قد يكون حاجبًا عن الحقيقة.
٤.ضرورة ممارسة الحوار والنقد العلمي والمناظرات العلمية في قبال ما يطرح من آراء تخالف الإجماع والمشهور،كي يرتقي الناس إلى مستوى الحوار العلمي الموضوعي، وكي نؤسس لعملية قبول الرأي الآخر وأسس الرأي الآخر وآليات رد الآراء غير العلمية بطريقة أخلاقية من جهة وعلمية موضوعية من جهة أخرى دون المساس بالشخوص، ودون ممارسة القتل الاجتماعي واستخدام الفتوى فيها إلا إذا كان هناك خطر حقيقي على المجتمع واستقراره الفكري والهوياني، وهو ما لم نجده كممارسة في نهج المعصوم حتى مع أشد الخطوط إلحادًا في عصر الإمام الصادق عليه السلام.
٥.الأصل هو الحوار والانفتاح على الآخر تحت مظلة التوحيد في أضيق مساحاته وهو عدم التسلط، وهو نظام يمكن أن نستمد منه أسس قيام الدولة وتنظيم علاقاتها الداخلية ضمن مساحة الاكتفاء الذاتي بتطوير العقول وفتح باب العلم والنقد والتطوير، وإفساح المجال لثقافة السؤال والإبداع دون سلطة قمعية تمارس في عرض سلطة الله، وأيضًا تؤسس لمبدأ الحريات كافة وفق جوهر العبودية فقط لله، وهو ما يلزم إعادة النظر في أدوات الأمن وقوانين الرقابة على المجتمع بحجة حفظ الأمن لتتواءم مع هذه القاعدة أن لا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا.

وأيضًا نظم علاقات الدولة الخارجية سواء في محيطها القريب أو البعيد ضمن قاعدة التناظر والمشاركة والاحترام، لا قاعدة الغلبة والهيمنة بلغة القوة،كون الربوبية لونًا من ألوان التحكم السياسي عبر النفوذ والقوة سواء العسكرية أو الاقتصادية، وهو ما يتطلب الدفع باتجاه امتلاك كل مكامن القوة التي تحدث توازنًا مانعًا لتسلط الآخرين من جهة، وفارضًا لمبدأ عدم تسلط أحد على أحد وفق مبدأ الاحترام المتبادل، والعدل والمساواة بين الجميع كدول وفق قاعدة لا ضرر ولا ضرار.
٦.إيجاد قاعدة مشتركة مع الغرب في التعاون الفكري والثقافي القائم على قاعدة أن لا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا، وهذا قد يؤدي لانفتاح الآفاق ومد الجسور بين الحضارات والعقول بما ينفع الناس كافة، على أساس التوازن واحترام الآخر لا أساس هيمنة جهة على جهة.
إن التوحيد هو الأصل الذي ناضل من أجله كل الأنبياء والمرسلين والأوصياء والربانيين،كون عبادة الله وحده تحرر الإنسان من كافة العبوديات وتحقق له بيئة ناهضة بإرادته وحريته واختياره، فحينما يتقوم العقل بإرادة الخالق ويتحرر من قيود المخلوق، يصبح قادرًا للوصول إلى الحق وقبوله من جهة، وقادرًا على إدراك حقائق الكون وتسخيرها في خدمة الإنسان في الدنيا، وعمارة الأرض بما ينفع الناس من جهة أخرى.
فالتوحيد ضمير الحرية النابض بالحق والعدل، وطريقها المعبد لها للوصول إلى الحقيقة، وهي السلاح الذي يتسلح به العقل كي يرفع الأغلال عنه ويطلق له العنان في فضاء الفكرة ليبدع في خلق الله ولهم.

فلا يكفي إبقاء التوحيد فقط نظريات ومحاججات وعقائد نظرية، بل تنزيل التوحيد إلى واقع الحياة أي التوحيد العملي، يكون من خلال تفعيله ضمن مشاريع حقيقية تكرس الهيمنة الربانية الواحدة، وتذيب كل الربوبيات التي في طوله، وتمكن النفوذ الرباني من خلال تأهيل النفوس والعقول والطبيعة والكون والارتفاع بالقابليات لدرجة التوحيد الحقيقي عمليًّا ونظريًّا، وهو ما يستلزم رفع كل هيمنة وسلطة تقع في عرض هيمنة وسلطة الله تعالى.