مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
إيمان شمس الدين
عن الكاتب :
باحثة في الفكر الديني والسياسي وكاتبة في جريدة القبس الكويتية

العمل الرسالي وتحديات الراهن (2)


إيمان شمس الدين

ولو قمنا باستقراء واقع أغلب الساحات في العمل الرسالي لوجدناها تشترك في عدة مشتركات تعتبر نقاط ضعف أخلاقية ومنهجية في العمل الرسالي العام وهي:
- تأثرها بسلوكيات علمانية وإن بشكل غير مباشر، ومن أهم وأخطر هذه السلوكيات هي :
١- انحسار العمل الرسالي فقط في المساجد والحسينيات والمراكز الإسلامية والتابعة لكل تيار وحزب، وعدم وجود رؤية للانتشار الاجتماعي والتواجد في مؤسسات الدولة وفق برنامج مدروس. وهي علمنة مبطنة وعزل الدين عن باقي المجتمع وباقي مناحي الحياة.
٢- البراغماتية السلوكية في التعامل مع الأفراد، فالذي ينفع المشروع وفق إرادة قيادة المشروع كان له الحظوة، وإلا يتم تهميشه وعدم توظيف أي طاقة وعقل له، خاصة أن معايير النفع غالبًا هي معايير شخصانية بعناوين دينية. كالطاعة والولاء والانضباط، فهنا الطاعة تكون للقيادة البشرية وهنا لا نرفض مبدأ الطاعة لكن نرفض توظيفه في سبيل شخصاني لا سبيل رضا الله، وتحويله من مفهوم نسبي إلى مطلق، بمعنى أن طاعة القيادة غير المعصومة هي طاعة نسبية تتوقف على حكمة القيادة وبصيرتها ومصداقيتها ومدى انضباطها على الحق، وانتهاجها لمنهج البحث عن الحقيقة والتزامها الأخلاقي القيمي، أما الطاعة المطلقة فهي لا تكون إلا لله ولمن عصمه الله تعالى.
هذا فضلًا عن عدم تقدير العاملين كما يجب، فمن لا يتفق مع المنهج العام يتم تهميشه، بل ويتم غالبًا إهماله اجتماعيًّا حتى في التواصل الأخوي الموصى عليه قرآنيًّا وروائيًّا.
٣- تعطيل الطاقات لمجرد اختلاف وجهات النظر، فيكون بذلك قاطع طريق لسبيل الله، وتفعيل من يتوافق مع وجهات النظر حتى لو لم يكن أهلًا، وهذا يعود لفقدان منظومة القيم والمعايير المتصلة بالسماء وتحولها لمنظومة قيم ومعايير نسبية بشرية.
٤- رفض النقد والتقييم بحجة الاستهداف وعدم شق الصف، مع أن وجود الأعداء لا يعني السكوت عن الأخطاء، بل يجب مع وجود الأعداء النقد والتقييم لسد الثغرات وعدم فسح المجال لمن يستهدفنا من النفوذ والاختراق من الثغرات.
٥- الانغلاق على الذات، وما أعنيه الجلوس داخل الصندوق وعدم محاولة الخروج من مألوف ومشهور المحيط، وهنا لا أدعو لخروج دفعي صدامي، وإنما لخروج تدريجي تصحيحي تغييري للمحيط، كون العمل الرسالي أحد أهم أهدافه التغيير الإيجابي وتصحيح مسيرة المجتمع وصناعة وعي وازن، وهو ما يتطلب انفتاح اجتماعي وعلى كافة المستويات والآفاق وخلق مشتركات يمكن من خلالها إيجاد أرضيات تعاون مع كافة فئات المجتمع ومكوناته.
- غلبة أصالة المجتمع على الفرد وهي مس اشتراكي غير مباشر في الوعي والسلوك، حيث تقدم مصلحة الجماعة على المصالح الطبيعية للفرد، ويغلب العقل الجمعي على قاعدة "خيركم من جمع العقول لعقله" وهي قاعدة تعمد إلى الاهتمام بكل العقول الناهضة والفاعلة وجمعها لتحدث توازنًا في الرأي والفكرة وبالتالي في الرؤية والسلوك والعمل. هذه الغلبة تكون نسبية، فغلبة أصالة المجتمع تكون في العمل والتنفيذ، وغلبة أصالة الفرد على المجتمع تكون في القيادة ووضع الخطط والاستراتيجيات، حيث يتصدى أفراد دون انتخابهم وإنما لمجرد الأقدمية غالبًا يتصدون لوضع الخطط والاستراتيجيات في كافة المجالات.
بينما الإسلام وازن بين الأصالتين، وكانت العدالة حاكمة بينهما بحيث في مواقف قدم إحداهما على الأخرى بما يحقق التوازن ومصلحة المجتمع العامة، وهو ما يجب أن تعيه الحركات الرسالية وتضع خططها وفقه.
- تهميش المرأة وحصر عملها في التنفيذ، وعدم وجودها في مراكز القرار والتخطيط، هذا فضلًا عن عدم الدفع باتجاه ارتقاء خطابها المنبري لمعطيات الزمان والمكان وحصره في دائرة ضيقة مكانيًّا وزمانيًّا ومذهبته، ليكون مقتصرًا على فئة، وعدم مواكبته لأهم الإشكاليات التي تواجه المرأة في المجتمع على كافة المستويات، هذا الحصر هو نوع من العلمنة في عزل الحراك التبليغي عن باقي المجتمع ومرافق الدولة المختلفة نتيجة مذهبة الخطاب وعدم تحويله لخطاب عالمي.
- ومن مظاهر المس العلماني في أغلب الحركات الرسالية هو ديننة الخطابات والدعوات وبأساليب قديمة، وما أعنيه بالديننة هو الخطاب الوعظي وغير المواكب لمتطلبات العصر وأهم الإشكاليات التي تعاني منها المجتمعات، وحصره في إطار ضيق من الدين نتيجة فهم ضيق للنصوص، واقصائه عن حاجات الناس وقضايا المجتمع وراهن العالم وتطورات الحدث، بذلك يكون تم تقليص الفهم الديني إلى إطار ضيق لا يهتم إلا بجانب من جوانب حاجات الإنسان وجانب من حاجات الروح  
- هناك تهميش للقيم والمبادئ والأخلاق غالبًا في كيفية التعاطي بين الإنسان وأخيه الإنسان، ومن أبرز المصاديق هو الإسقاط الاجتماعي للشخص الذي يختلف مع الجهة المنتمي إليها، سواء اختلاف في وجهات النظر وقيامه بالنقد والتقييم، أو اختلافه مع آليات العمل ومنهجياته ومحاولته للإصلاح والتصحيح الذي غالبًا يجابه بالرفض والإقصاء وينتهي بالتسقيط الاجتماعي.

وهو سلوك شبيه بحملات الوسائل الإعلامية التي تسيطر عليها دول الاستكبار، بحيث تعمد إلى تزوير الحقيقة وتسقيط الجهات المناوئة لتلك الدول، فهو سلوك استكباري علماني يفصل مساره عن القيم الدينية والأخلاقية.
هذا المس العلماني والاشتراكي لكثير من منهج وسلوك الحراك الرسالي في كثير من المجتمعات هو نتيجة غياب الدراسات الفاعلة حول رؤية الإسلام للعمل الرسالي والإدارة، أو وجود دراسات لكن كثير من الجماعات الرسالية يغيب عن منهج عملها التنظير والتخطيط الاستراتيجي والمرحلي، ولا يوجد لديها غالبًا مطابخ فكرية تعمل على رسم الخطط ودراسة الواقع ومعطياته، والخروج برؤية شرعية منهجية وفكرية كاملة.

خلاصة:
إن المطلوب اليوم في ظل ترهل كثير من التيارات الرسالية الإسلامية وتراجعها في مواكبة المجتمع ومتطلبات الجيل الشاب، هو نهضة شاملة قادرة على تقديم مشروع رسالي تغييري تدريجي وليس دفعيًّا، تحكمه قوانين السماء ومنظومة قيم ومعايير أخلاقية وإنسانية، يضع للكفاءة أولوية، والتخطيط والمنهجية خيارات ناجعة، ويضم في حساباته الجيل الشاب والمرأة.
خاصة أن العولمة استطاعت أن تقدم بدائل جذابة وجاذبة وتلبي طموحات الشباب، وأن وجود هذا الكم من الخلل في العمل الرسالي خاصة القيمي والمعياري والمنهجي، هو ثغرة تدفع لتسرب الأجيال من التدين وهروبها من الدين لا لأنها ترفضه، بل لأن من تصدى لنشر الدين عمليًّا لم يكن أهلًا أو لم يكن مؤهلًا وقادرًا على المواءمة والمواكبة وسد الثغرات.
إن جاذبية الدين للإنسان فطرية، لكن عملانيًّا نحتاج تطبيق هذه الجاذبية وتنزيلها للواقع، لنجد الناس تدخل إلى دين الله أفواجًا، لا دين الرموز والقادة، وهو ما يتطلب قيادات وعاملين ربانيين يتخلصون من الأنا و يجعلون همهم رضا الله، فلا يكونوا قطاع طرق عن الله بل جسورًا إليه.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد