مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
إيمان شمس الدين
عن الكاتب :
باحثة في الفكر الديني والسياسي وكاتبة في جريدة القبس الكويتية

قراءة في واقع الخطاب / المنبر الحسيني نموذجًا (1)


إيمان شمس الدين

تعتبر اللغة من أقدم وسائل التواصل بين البشر، بل أكثرها تأثيرًا وأخطرها، حيث لا تعبر اللغة عن مجموعة كلمات فحسب، بل للكلام بعد فعلي في الواقع الخارجي، أي أن الألفاظ المستخدمة في اللغة لها بعد ذهني ولها بعد واقعي خارجي، وقد اهتم الباحثون في القرن الأخير في البعد التداولي للغة.
"ففي القرون القليلة الأخيرة حدث تطور معين في اللغات الغربية يعكس التغير في التوجه نحو أسلوب التملك، ذلك هو التزايد الملحوظ في استخدام الأسماء مع التناقص في استخدام الأفعال.
فالأسماء هي الرموز المناسبة للأشياء... بينما الأفعال هي الرموز المناسبة للنشاط والفعل.. غير أن استخدام صيغ التملك للتعبير عن النشاط يتزايد باطراد، أي يتزايد استخدام الأسماء عوضًا عن الأفعال. واستخدام صيغة التملك مع ربطها بالأسماء للتعبير عن نشاط إنساني إما هو استخدام مغلوط للغة، فالنشاط لا يمتلك، ولكنه يمارس."  1
لذلك نلحظ تطورًا في الدلالات اللغوية وفي استخداماتها، تابعًا في كثير من الأحيان لتبدل أنماط السلوك الاجتماعي، وتغير الرؤية الكونية التي تدور حول الله والإنسان والطبيعة. هذا فضلًا عن خضوع هذه التطورات والتبدلات إلى تغير منظومة الأفكار والقيم، وطريقة تداولها اجتماعيًّا وفكريًّا.
وتكمن أهمية دراسة الألسنيات، أو اللسانيات2 في معرفة الطرق الأفضل في التواصل، ومعرفة خصائص هذه الطرق خاصة في الخطاب والذي يعتبر من أهم الوسائل التواصلية مع الجمهور، ولأهمية ما تحمله اللغة من مقومات الثقافة والهوية، والتي من خلالها يتم تحديد هوية فرد ومجتمع وأمة، ومن خلالها يتم صناعة الحضارات.
والخطاب أحد أهم الأشكال التي تصاغ بها اللغة وتتشكل في بنية مركبة ومُوجهة للمستقبِل ومؤثرة في تشكيل وعيه وبناه الفكرية والمعرفية.
يعرف الخطاب اصطلاحًا: هنالك الكثير من التعريفات المُتعارف عليها للدّلالة على الخطاب ومنها أنّ الخطاب مَجموعةٌ مُتناسقة من الجمل، أو النصوص والأقوال، أو أنّ الخطاب هو منهج في البحث في المواد المُشكّلة من عناصر متميّزة ومترابطة سواء أكانت لغة أم شيئًا شبيهًا باللغة، ومشتمل على أكثر من جملة أولية، أو أيّ منطوق أو فعل كلامي يفترض وجود راوٍ ومستمع وفي نية الراوي التأثير على المتلقي، أو نص محكوم بوحدة كلية واضحة يتألف من صيغ تعبيرية متوالية تصدر عن متحدث فرد يبلغ رسالة ما .3

ويتشكل الخطاب متأثرًا بعدة عوامل أهما:
١. البنية الفكرية للمُرسِل، ونعني هنا بيئته الثقافية، معتقداته، منظومة قيمه ومعاييره.
٢. البيئة الاجتماعية.
٣. البيئة السياسية.
٤. البيئة الدينية الحاكمة
٥. الذاتية، ونعني بها ذاتية المُرْسِل.

وعادة ما يتكون الخطاب من العناصر التالية:
١. المُرْسِل.
٢. المُسْتَقبِل.
٣. مضمون الخطاب
٤. الهدف من الخطاب وهو ما يريده المرسل من الخطاب.(الرسالة التي يريد إرسالها للمستقبل).
٥. الوسيلة التي من خلالها يتم إيصال الخطاب.

وللخطاب أنواع عديدة وما سنركز عليه في هذه المقالة هو نوع من أنواع الخطاب ويسمى الخطاب الإيصالي: وهو الخِطاب الموجّه من المُرسل إلى المُستقبل عبر رسالةٍ ما؛ الهدف منها إيصال أفكارٍ مُعيّنةٍ من قِبل المُرسل إلى شريحةٍ مُحدّدةٍ من النّاس، وعلى ذلك يأخذ الخِطاب الإيصاليّ أكثر من صورةٍ منها: الخِطاب السِّياسيّ، والإرشاديّ، والتّوعويّ، والنهضويّ، والتّعبويّ- خطاب يهدف إلى تعبئة الرأي العام تجاه قضيّةٍ ما- والخِطاب الإعلاميّ والرّسميّ- من قِبل الدَّولة أو إحدى مؤسسّاتها- والخِطاب النّفسيّ، ومما يُميّز هذا الخِطاب أنّه قد تُستخدم فيه أدواتٌ غير اللُّغة المنطوقة؛ كالدِّعايات الإعلانيّة، والمنشورات، والبرامج التِّلفزيونيّة والإذاعيّة، كما أنّ هذا النَّوع من الخِطاب عادةً ما يعود بالمنفعة على المُرسل ماديًّا أو معنويًّا أو كليهما، ويتكون الخطاب الإيصالي من ثلاثة أقسام هي: المرسل وهو الخطيب الذي يقرأ الخطاب على الجمهور، والمُرسل إليه وهي الفئة المُستهدفة من الخطاب، والمتلقّي هو الجمهور الذي يُلقى عليه الخطاب .4
يهدف الخطاب إلى وصف التعابير اللغوية بشكل صريح، بالإضافة إلى أنّ الخطاب يفكك شفرة النص الخطابي عن طريق التعرّف على ما يحتويه النص من تضمينات وافتراضات فكريّة، وتحليل الخطاب هو معرفة الرسائل المُضمّنة في النص الخطابي ومعرفة مقاصده وأهدافه، ويتم تحليل الخطاب عن طريق الاستنباط والتفكير بشكلٍ منطقيّ حسب الظروف التي نشأ وكتب فيها النص الخطابي وهو ما يسمى بتحليل السياق الذي يعتمد عليه النص .  5
وتلعب الرؤية الكونية كجذور, أهمية كبيرة في تشكيل بنية الخطاب، وفي تحديد مدى سلامة المعارف التي تطرح عبر مختلف الخطابات، إضافة إلى دورها في تشخيص مدى سلامة الغايات والوسائل التي تستخدم في تحقيق هذه الغايات ومدى سلامتها، هذا فضلًا عن دور هذه الغايات في التأثير على سلامة المعارف المطروحة عبر الخطاب.

لذلك وعلى ضوء الرؤية الكونية الإسلامية، ولأننا هنا معنيين بالخطاب الإسلامي فإن الخطاب الاتصالي الذي يناسب المجتمعات الإسلامية كنظرية يمكن تعريفه كالتالي:
"نسق يتشكل في ضوء مقولات التصور الإسلامي ـ وما ينبثق عنه من طرح إيديولوجية وابستمولوجية ـ يحدد الكيفية التي يمكن من خلالها بناء وتقويم عمليات الاتصال التي تحمل الحق القادر على ترسيم سبل تحقيق غايات المجتمع الإسلامي العليا" . 6
ولأن الخطابات تتكون من بنية لغوية، بالتالي يكون لتلك اللغة بعد تداولي كما أسلفنا. "والتداولية ليست علمًا لغويًّا محضًا يكتفي بدراسة التراكيب اللغوية وجوانبها الدلالية فحسب، بل هي دراسة التواصل اللغوي داخل الخطابات، أي دراسة الظواهر اللغوية في مجال استعمالها . 7
والتداولية هي دراسة العلاقات بين المُرْسِل والمُستقبِل وعلاقتهما بسياق الاتصال . 8
وأحد أهم منصات الاتصال بين المتكلم والمستقبل هي الخطاب، وما يهمنا هنا الخطاب في الفكر الإسلامي، وما يحدثه من تأثيرات في قراءة الواقع والتأثير في صناعة المستقبل، وفي إحداث تغييرات اجتماعية، فلقد كان الخطاب في صدر الإسلام وسيلة إعلامية مركزية في التواصل بين الجمهور من جهة وقيادتهم من جهة أخرى. وما زال الخطاب اليوم خاصة في المجتمعات الإسلامية يشكل أحد أهم وسائل التواصل المؤثرة والصانعة للوعي والباعثة للفعل بين الخطيب وجمهوره، خاصة إذا كان للخطيب وجود اجتماعي مؤثر وقوي، ومكانة متقدمة يُحدث خطابه انزياحًا معرفيًّا في وعي الجمهور ويؤثر في تغيير الواقع وصناعة المستقبل. كما يمكن للخطاب أن يلعب دورًا محوريًّا في إصلاح المفاهيم وتوجيه الثقافة، وتجديد الرؤى وإعادة بناء رؤية عصرية تتمسك بالأصيل ولكن تجذب الجمهور لهذا الأصيل من خلال دمج الأصيل بلغة عصرية تتناسب وتطور وعي المجتمع من جهة، وتطور دلالات التراكيب اللغوية واستعمالاتها. بل في الحفر عميقًا في النصوص الإسلامية وفهم دلالاتها وتركيباتها بشكل أعمق وأوسع يمكن من خلاله فهم مسار ذلك الخطاب في عصره ومنهج التفاعل الإصلاحي بين الخطيب والجمهور، خاصة إذا كان للخطيب موقعية متقدمة في المجتمع والأمة بل في هوية الأمة وتشكيلها وصناعة مستقبلها وحاضرها.

أشكال الخطاب:
"ثمة أشكال عدة للخطاب، وقد صنف ألكسندر باين Alexander Bain في النصف الثاني من القرن التاسع عشر أشكال الخطاب تبعًا للوظيفة التي يمكن أن يضطلع بها الخطاب حيال المستقبل إلى: الخطاب الوصفي، الخطاب القصصي، الخطاب التفسيري (الذي يقدم تفسيرات عقلانية للأشياء)، الخطاب الإقناعي، الخطاب الشعري (الذي يؤجج العواطف من خلال محتواه)، وفي سبعينيات القرن العشرين طرح جيمس كينفي James Kinneavy، في كتابه الشهير (نظرية الخطاب)ـ والذي يعد من أهم أعمال التي قدمت حول نظرية الخطاب في القرن العشرين ـ تصنيفًا جديدًا لأشكال الخطاب ينطلق من الهدف الذي يسعى القائم بالاتصال لتحقيقه من وراء الخطاب الذي يقدمه وقسمه إلى: خطاب تعبيري (ليعبر عما يشعر به)، وخطاب إقناعي (ليؤثر في المستقبل) وخطاب إعلامي (لينقل معلومات عن واقع ما)، وخطاب أدبي (ليجذب الانتباه للغة الخطاب).
وبغض النظر عن تعدد أشكال الخطاب .. فإن ما يقع في نطاق اهتمام النظرية الإسلامية للخطاب، تبعًا للمفهوم الذي تتبناه الدراسة للاتصال الخطابي هو ما يؤدي في النهاية إلى تحقيق الأهداف التي تسعى في الوصول إلى الحق القادر علي إحداث التأثير المرجو حيال أي أمر يقع في المجتمع المسلم بالصورة التي تصب في النهاية في صالح غايات هذا المجتمع . 9
والخطاب كونه لغة تواصلية فله بعد تداولي أيضًا، وللتداولية أشكال ودرجات أهمها:
"١. تداولية الدرجة الأولى: وتهتم بالرموز الإشارية التي تحيل إلى المتكلمين، والزمان والمكان، وبذلك تهتم بدراسة البصمات التي تشير إلى عنصر الذاتية في الخطاب، والتي تحدد مرجعيتها ودلالتها من خلال سياق الحديث . 10
٢. تداولية الدرجة الثانية: تتمثل بدراسة مدى ارتباط الموضوع المعبر عنه بملفوظه، إي دراسة حجم ما يبلغه المتكلم من دلالات الملفوظ الذي يؤدي ذلك .11 وهي تدرس كيفية انتقال الدلالة من المستوى الصريح إلى المستوى التلميحي (الضمني) ويعتبر من أهم نظرياتها قوانين الخطاب.
٣. تداولية الدرجة الثالثة: هي نظرية أفعال الكلام أو كما يسميها بعض الدارسين "أفعال اللغة" أو "الأعمال اللغوية"، للفيلسوف الأمريكي جون أوستن، والتي طورها تلميذه سيرل، مؤداها أن الأقوال المتلفظ بها لا تصف الحالة الراهنة للأشياء فحسب، بل أنها تنجز أفعالًا، والسياق هو الذي يحدد نوع الفعل المنجز، أمرًا أو نهيًا أو استفهامًا أو غيرها، ويهدف هذا الاتجاه إلى تحديد القوة الإنجازية (الإيحائية) في الملفوظ، وتحدد هذه القوة في الملفوظات من خلال موقع المتكلم في المجتمع12 وقصده الدافع للإنجاز13.
ـــــــــــ
  الإنسان بين الجوهر والمظهر/ إريك فروم/ سلسة عالم المعرفة / العدد ١٤٠/ اغسطس ١٩٨٩م / ص ٣٤
2 اللسانيات أو علم اللغة هي علم يهتم بدراسة اللغات الإنسانية ودراسة خصائصها وتراكيبها ودرجات التشابه والتباين فيما بينها. و يدرس اللغة من كل جوانبها دراسة شاملة. أما اللغوي فهو الشخص الذي يقوم بهذه الدراسة. ظهرت اللسانيات الحديثة في القرن 19م، لكنها كعلم قديمة قدم الإنسان"ويكيبيديا".
3 هبة عبد المعز/تحليل الخطاب/ مؤسسة النور للثقافة والإعلام/ عن موقع
https://mawdoo3.com/تعريف_الخطاب
4  شروق خلیل (2015)، دور البنية اللغوية في الخطاب الإشهاري - رسالة جامعية، صفحة 13. بتصرّف./
 /عن موقع  https://mawdoo3.com/تعريف الخطاب
 5  هبة عبد المعز/ مصدر سابق
6  نظرية الخطاب (الفكر) الإسلامي: قراءة علمية تأسيسية، محمود يوسف السماسيري/ ص ١٢٠
7  الأبعاد التداولية عند الأصوليين ، مدرسة النجف الحديثة نموذجا، فضاء ذياب غليم الحسناوي، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، سلسلة الدراسات الحضارية،ط ١، بيروت ٢٠١٦، ص ٣٠
8  عيد بليغ، التداولية البعد الثالث في سيميوطيقا موريس، ص ٣٦
9  نظرية الخطاب الأسلامي/ قراءة علمية تأسيسية، محمود يوسف السماسيري، ص ١١٢،١١١
10  فطومة حمادي، تداولية الخطاب المسرحي، مجلة: "الحياة الثقافية"، وزراة الثقافة والمحافظة على التراث، تونس، ديسمبر ٢٠٠٧، ص ٧٩.
11  خليفة بوجادي، في اللسانيات التداولية، ص ٧٩
12  فطومة حمادي مرجع سابق ص ٨٠
13  فضاء ذياب غليم الحسناوي، مصدر سابق، ص ٤٥،٤٤

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد