مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
إيمان شمس الدين
عن الكاتب :
باحثة في الفكر الديني والسياسي وكاتبة في جريدة القبس الكويتية

قراءة في واقع الخطاب / المنبر الحسيني نموذجا (4)


إيمان شمس الدين

ووفق المبدأ الإمامي الإثنى عشري فإن ولاية المعصوم عليه السلام لا تسقط برحيله عن الدنيا، بل يبقى منهجه وتوجيهاته وإرشاداته حجة ودليلًا إذا ثبت صدوره عنه، دليل يرشد للطريق الأقصر إلى الله.
وظيفة الإمامة هي وظيفة خاصة فقط بالمعصوم الذي اختاره الله لأدائها، عدا ذلك لا يوجد تكليف مفروض على الأمة لو قام به المعصوم سقط عن الأمة او الباقي.
بل المعصوم دومًا يكون في مقدمة أداء تكاليفه على أكمل وجه ليقدم نموذجًا وقدوة للمكلفين لاتباعه وإيصالهم إلى الله، لأن أحد أهم وظائف الإمام هو الإيصال إلى المطلوب، والإيصال يتطلب حركة من المعصوم في خط مستقيم وحركة من المكلف في ذات الخط ،شريطة أن يمتلك عقلًا مريدًا مختارًا وليس عقلًا مقلدًا متبعًا  دون إدراك، فولاية المعصوم وكذلك ولاية الأنبياء لا تكون نافذة إلا على العقلاء الذين أدركوا الحق من الباطل وميزوا الطرق، ومن ثم أرادوا واختاروا الطريق الموصل إلى الله بكامل إرادتهم.

وحينما نقول مكلف أي هناك تكليف شرعي عليه ونعني بالتكليف الشرعي: هو وظيفة الشخص المكلف في حياته على ضوء الأوامر والنواهي الإلهية أو هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين طلبًا أو تخييرًا. كطلب القيام بالصلاة وطلب الامتناع عن الكذب أو التخيير بين الفعل وعدمه كالأكل، وعلى ضوء دوره كخليفة الله على الأرض. وهنا عندما نقول خليفة الله نعني امتلاكه لكل مقومات الاستخلاف، والقابليات والأدوات التي تمكنه من أداء دوره الاستخلافي. فنحن نقول أن الإنسان خلق بالقوة ليمارس دور الخلافة بمعنى أودعت به هذه الوظيفة فطريًّا بالتساوي بين كل البشر، لكن فعليًّا يختلف البشر بين من هو واقعًا خليفة وبين من هو ابتعد عن دوره الاستخلافي في الأرض لبعده عن مرادات المستخلِف.
وبناء على ذلك يتم التكليف الشرعي لمن أدرك وظيفته الاستخلافية في الأرض على ضوء إرادة المستخلِف، وإذا أدرك ذلك بعقله، سعى لمعرفة الإرادة الإلهية في الأرض بطريقة عقلانية  توصل إلى المطلوب. وبعد معرفة المنهج الصحيح على ضوء إرادة الله يصبح هنا قادرًا على تشخيص مساره في الدنيا ووظيفته، وهي النهوض المستمر في كل لحظة لمواجهة كل محاولات الانحراف في المسار أو محاولات حرفه عن جادة الحق. لكنه في ذات الوقت يجب أن يمتلك القدرة على تشخيص مراتب هذه المواجهة وكيفيتها  وآلياتها التي تحقق هدف النهوض، كون الانحراف ليس بمرتبة واحدة وكل مرتبة لها أسلوب مواجهة وتوقيت وطريقة.
فالنهوض حركة دائمة مستمرة على طول المسار الإنساني في الدنيا لأن الصراع بين الحق والباطل لن يتوقف فيها، بالتالي هو بحاجة مستديمة لتقييم المسار وتقويمه والنهوض به. سواء نهوضًا أخذ في حسبانه الزمان والمكان ومواكبًا للعصر أو نهوضًا يسعى من خلاله إعادة المسار بعد انحرافه لطريقه القويم.

فهناك نهوض تطوري عصري، وهناك نهوض مقوم ومصحح. وفي كلا الحالتين على الإنسان المسؤول إدراك وظيفته والمباشرة في تأديتها.
والتخلف عن الإمام يكون بترك المكلف لوظيفته الاستخلافية، وعدم أدائه لما اعتبر واجبًا عليه، وعدم التزامه بالحق وبمنهج المعصوم في مواجهة الانحرافات والدعوة إلى الله، هذا إضافة لتخلفه عن منهج البحث القائم على الدليل والبرهان الذي أسسه الله في القرآن، والذي ينهض بالعقل ويجعله دومًا في حالة الباحث عن الحقيقة حتى مع بعدنا عن عصر التشريع والعصمة، هذا فضلًا عن تخلف المكلف عن فهم كيفية مخاطبة الناس ولوازم الخطاب الصحيح، ومقامات الخطاب.
فتشخيص مراتب الخلل وتشخيص آلية مواجهة كل خلل وكل مرتبة ضرورة لإحداث حركة النهضة، فأداء وظيفة الاستخلاف وفق الإرادة الإلهية من أهم مقوماتها امتلاك القدرة على التشخيص السليم في توجيه المسار وفق الإرادة الإلهية، وهو ما يتطلب قدرة مستقيمة وبصيرة نافذة في قراءة الواقع وحساب عواقب الأعمال والخيارات المتاحة ودراسة المعطيات المحيطة كافة والإمكانيات، ومن ثم مقارنة الخيارات واختيار الأكثر استقامة على إرادة الله وحفظًا  لكرامة الإنسان وللدين.
 وترك هذه الاعتبارات وفهم مسار المعصوم ومنهجه وطريقته في تشخيص المقامات والمراتب خاصة على مستوى الدعوة إلى الله المتعلقة بالخطاب ومضمونه، وما يترتب على هذا الترك من تداعيات تؤثر على  مستقبل الدعوة والدين وعلى مدى نفوذهما في وعي الناس، فحينما تخلف الناس بعد وفاة النبي ص عن أداء تكليفهم اتجاه المعصوم  وصلنا نحن اليوم إلى هذا الكم من الانحراف في الأمة والتحريف في الدين وانتشار الظلم وغياب العدالة وتراجعنا كأمة بين الأمم.

وقد وردت توصيات كثيرة ذات مصادر متعددة، وفي فترات زمنية مختلفة، وارتبطت التوصيات التي وردت من المعصومين عليهم السلام، ارتبطت بثواب كبير جدًّا في الآخرة، وهو ما يدلل على أهمية هذه التوصيات وآثر الاتزام بها على مسار الإنسانية، وهذه التوصيات كانت تخص الحث الشديد على إحياء مراسم عاشوراء وذكراها، بل كان بعض الأئمة يدفعون من حر مالهم لتكليف أشخاص يقومون بندب الحسين عليه السلام ورواية مصيبته في يوم العاشر من محرم وما جرى على أهله وأصحابه من ظلم.

لذلك عبر التاريخ التزم أتباع هذه المدرسة بإحياء هذه المناسبة العظيمة مهما كلفهم ذلك من تضحيات، خاصة مع مواجهة السلطات عبر الزمن لهم، ومنع أي مظاهر تحاول الإشارة لهذه المناسبة وما حدث فيها، بل منعت زيارة قبر الحسين عليه السلام، وتم وضع عقوبات تصل إلى حد الموت لمن يخالف ويذهب لزيارة الإمام الحسين عليه السلام.
إلا أن أهمية الحدث وفجاعة ما حدث به وأهمية الشخصية التي قادته وهي شخصية الحسين عليه السلام، وأهمية الرسالة التي حملها الحسين عليه السلام ووجهها للعالم أجمع عبر التاريخ من خلال استشهاده بهذه الطريقة، تدفع باتجاه الإصرار على إحيائها عبر التاريخ، لأنها تجسد مواجهة بين فرعون وموسى، وبين الظلم والعدالة، وبين العبودية والكرامة، وبين الحرية والاستعباد، فهي معركة حملت منظومة قيمية إنسانية عالمية تتجاوز الزمان والمكان. كانت هذه المعركة إصلاحية لجذر تأسيسي في الدعوة إلى الله، وهو التوحيد الذي انحرفت كل دلالاته العملية في وعي الأمة، ليصبح هناك آلهة في عرض الله وبطريقة دينية تخديرية تعطل وتشل قدرة الإنسان على المواجهة، بل تجعله يقر بعبوديته لهذا الإله الجديد بحجة طاعة الله.

ومن أهم الوسائل التي من خلالها يمكن التواصل مع الناس والجمهور، وإيصال رسالة الإمام الحسين عليه السلام وإحياء هذه المناسبة هي المنبر، وما لهذا المنبر من دور كبير في تصويب وعي الجمهور، وإصلاح بنية الفكر، وتثوير العقول ونهضتها، وإعادة تصويب مسارات الأمة نحو خيار التوحيد الحقيقي، ونفي كل أنواع الألهة، ومواجهة كل أنواع السلطة التي تتصف بمنهج فرعون ويزيد، أو تحاول حرف مسار الرسالة الحسينية عن أهدافها ومآلاتها وآثارها الاصلاحية الحقيقية، فهنا المواجهة ليست فقط مع الخارج، بل أيضًا مع الداخل المنتمي لمدرسة الحسين عليه السلام ولكنه يحرف الثورة الحسينية عن أهدافها ويشوه ثورة عاشوراء في وعي الجمهور، ويؤسس لوعي منحرف يؤدى إلى انحراف جديد باسم الحسين ع، وبالتالي لا تؤدي عملية الإحياء دورها المراد منها.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد