مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
إيمان شمس الدين
عن الكاتب :
باحثة في الفكر الديني والسياسي وكاتبة في جريدة القبس الكويتية

قراءة في واقع الخطاب / المنبر الحسيني نموذجا (5)


إيمان شمس الدين

المنبر هنا يواجه محورين:
١. محور خارجي متمثل بمواجهة الفراعنة والظلم والفساد.
٢. محور داخلي متمثل بمواجهة الانحراف وتشويه مسارات الثورة وأهدافها، وتعطيلها وتخديرها بالعاطفة دون الفكرة، وتشويه معالم الثورة بسلوك يدفع فاعليه لإحراز راحة نفسية تعطيلية،  دون الالتزام بمنهج صاحب المناسبة وتحقيق الهداية التي توصل الناس إلى الله تعالى.
وهذه المواجهة تتطلب حسًّا عاليًا من المسؤولية والفهم، وإدراك الواقع والاختلافات الموجودة بين الشعوب والمجتمعات، وإدراك الإشكاليات الخاصة والعامة، ومقامات اللغة، وماذا يقال وكيف يقال ومتى يقال وأين يقال، لذلك يعتبر صياغة الخطاب ذا أهمية قصوى في المنبر الحسيني.
"ولما كان أي خطاب يطرح في المجتمع الإسلامي ـ مثله في ذلك مثل أي مجتمع ـ يستمد المعايير التي يعاير على هداها مدى سلامة معارفه وغاياته والوسائل التي يحقق خلالها هذه الغايات من الخطاب الذي ينتمي إليه، ولما كان هذا الخطاب العام يستمد معاييره من الخطاب الذي يعلوه، وهكذا، إلى أن نصل إلى خطاب التصور الكوني الذي يعد الخطاب الكلي الذي لا يعلوه خطاب.. فإن هذا يعني أن أي خلل في بنية الخطاب الكلي (منطلقاته أو غاياته أو وسائله) يعني حتما خللَا في شتى الخطابات التي تنبثق منه، وهو ما عني بالبديهة حدوث اختلال في أي تحرك يهتدي بأي من هذه الخطابات و ـ من ثم ـ حدوث إخفاق ـ على قدر هذا الخلل ـ في تحقيق الغاية المبتغاة من وراء هذه الحركة. وهكذا.. فإن غياب خطاب التصور الكوني الإسلامي القائم على أسس برهانية يعد إشكالية أمام قدرة النظرية الإسلامية للخطاب على طرح التصور الذي يمكن خلاله تأسيس وبناء أي خطاب في المجتمع الإسلامي، على نحو يمكن هذا الخطاب من بلوغ الحق حيال القضية التي يتصدى لها."  
فالنظرية الخطابية الإسلامية يجب أن يكن أحد أهم أهدافها بل محور أهدافها هو تأسيس خطاب قائم على البرهان، لا على الظن كما هو حال النظريات الخطابية الوضعية.
ولهذا أهمية قصوى في تأسيس وعي الجمهور ومن ثم توجيه سلوكه، بل له دور محوري في رسم منهج التفكير وآلياته، والذي يلعب دورًا هاما في توجيه السلوك الفردي والاجتماعي.1
وفي بناء أي خطاب في القضية الحسينية فإن ذلك يتطلب عدة أمور سواء على مستوى اللفظ واللغة أو على مستوى المضمون، أو على مستوى الأهداف، فالخطاب الحسيني يهدف إلى أهداف صالحة، بالتالي لابد أن تكون الأدوات في تحقيق هذه الأهداف صالحة، ولابد للغة والمضمون أن يتناسب طرديًّا مع صلاح الأهداف.
فلا يمكن لأهداف صالحة أن تتحقق بأدوات غير صالحة، كالمضمون الظني غير القائم على دليل، أو الاستحساني، أو التعطيلي، أو التخديري وكليهما قائم على عاطفة انفعالية خالية من الفكرة والتعقل، هذا فضلًا عن استخدام المبالغات والخرافات والأساطير في بنية الخطاب الحسيني، وهو ما يجعله خطابًا فولكلوريًّا أكثر منه خطابًا يطرح الحق وصفاته، معالمه بطريقة برهانية عقلية.

فالخطاب المنبري وخاصة الحسيني يفترض أن يتميز بعدة مميزات أهمها:
1.  دراسة إشكاليات الراهن التي يعاني منها الفرد والمجتمع داخليًّا وخارجيًّا، دراسة شاملة في أبعادها الفكرية والإجتماعية والنفسية والاقتصادية وانعكاسها على بنية الفرد والمجتمع النفسية والسلوكية، وهو ما يتطلب الرجوع لمتخصصين في ذلك المجتمع يعيونون الخطيب في بناء خطابه الذي يفترض أن يقدم معالجات لهذه الإشكاليات ضمن إطار يوازي بين الداخل والخارج.

2.  اللغة أو الألفاظ التي ستشكل مضمون الخطاب، فاللغة بنت الزمان والمكان، ولغة أي خطاب هي رهينة زمانها ومكانها، لذلك تعتبر الألفاظ والتداولية والمعنى من أهم الأبعاد التي يجب مراعاتها في بناء نص الخطاب، فاللغة تحتوي على هوية وهدف وأفعال وأوامر، فهي بالتالي تشكل محورًاهامًّا في بناء منظومة الأفكار وبالتالي الأفعال. بل هي توضح منهج للجمهور يبنى عليه تصورات وتصديقات ورؤى وسلوكًا.

3.  مراعاة المضمون للأهداف، ومراعاة وسيلة طرح الخطاب لتتناسب مع لغة وأدوات العصر وإشكالياته، بل محاولة تغيير وعي الجمهور والترقي به من مرحلة إلى مرحلة أرقى تتناسب وعالمية الرسالة ومحورية الثورة في منظومته الفكرية.

4.  اعتماد الدليل والبرهان كبنية تأسيسية للخطاب، وعدم الركون إلى الظنيات وكل ما هو دون دليل، خاصة فيما يتعلق يحدث الثورة الحسينية، لأن استخدام الخرافات والأساطير والروايات الضعيفة، والاتكاء فقط على العاطفة في الخطاب، فإن ذلك مع التقادم ومع تطور العلوم ونهوض الوعي الإنساني واكتشاف وهن هذا الخطاب فإن ذلك سيضعف من فعالية القضية الحسينية ومصداقيتها في النفوس، وبالتالي سيضعف من حقانية أهدافها ومنهجها، ومع التقادم سيغيبها عن وعي الأجيال القادمة كخيار محوري من خيارات الوعي الإنساني في المواجهة والتغيير. فالقضية الحسينية يجب أن تقوم على الصدق والدليل والبرهان، ويجب أن يتم تخليصها من كل ما هو زبد حتى لو خالف رغباتنا وما نعتقده مذهبيا، لأن قيام السلطات عبر التاريخ بمذهبة القضية الحسينية، ومن ثم تشويه معالمها وأهدافها، وتصغيرها لتصبح فقط مجرد مجموعة شعائر وطقوس يمارسه بعض الشيعة لينالوا بذلك الشفاعة والراحة النفسية، فإن ذلك حرف القضية الحسنية مع الزمن عن عالميتها وإنسانيتها، بل ضيق أفق أهدافها وحصرها في صندوق ضيق لا يطلع عليه إلا من انتسب للتشيع، أو من تفاعل مع القضية الحسينية بإنصاف، لذلك تجاوز هذا الخطأ التاريخي السلطوي، لا يتم رلا من خلال بناء خطاب منبري يعتمد على الصدق والدليل، ويعيد صياغة أهداف الثورة من بعدها المذهبي إلى بعدها العالمي، وهو ما يتطلب مضمونًا لغويًّا وفكريًّا يتناسب وعالميتها، وهو بالبداهة يعني التخلص من كل الموروث الذي تم دسه دون دليل في القضية الحسينية. ويتطلب أيضًا الأخذ بالحسبان تحول العالم إلى قرية صغيرة، وهذا ما عنيته من مراعاة الداخل والخارج في رصد الإشكاليات وفي عالمية الخطاب في مضمونه، فللغة مراتب ومواقع، واليوم بات الفضاء مفتوحًا على كل العالم، فما يطرح في أي بقعة صغيرة من العالم سيصل خلال دقائق إلى كل بقعة في العالم، وهذا يعني أن تدرس بنية الخطاب دراسة عميقة تراعي خصوصيات الهوية الخاصة من جهة، وخصوصيات الهوية العامة من جهة أخرى وعالمية الهوية الإنسانية من جهة أخرى، وتحويل القضية الحسينية إلى قضية إنسانية لكل إنسان، وأهداف عالمية يتطلب صياغة خطاب يتناسب وهذا الهدف، آخذا في الحسبان كل حيثيات الراهن، من زمان ومكان ومن ظروف الإعلام والنقل والجماهير المخاطبة، فقبل العولمة كان هناك جمهور محدد يمكن للخطيب مخاطبته، وكان الخطيب يدرك ماذا يقول لهذا الجمهور وكيف يقوله، لمعرفته بنوعية هذا الجمهور المحدد، لكن اليوم لم يعد هناك خصوصية للجمهور، فالخطاب الذي يطرح في العراق سوف يسمعه كل الناس في كل مكان، لذلك باتت تحديد هوية الجمهور ومستواه أصعب، وهو ما يدفع الخطيب لتغيير الأسلوب والمنهج والأدوات والأهداف، والتغيير ليس بالضرورة تبديلًا، بل قد يكون تغيير في الرؤى وتوسيع الأفق والترقي بالأهداف من مرتبة إلى مرتبة.

5.  العالمية تتطلب بنية خطاب عالمي، وهو ما لا يمكن لخطيب وحده القيام به، بل يتطلب ذلك تشكيل لجنة من متخصصين في مجالات إنسانية ونفسية وعلمية قادرة على أن تمد الخطيب بآخر المتابعات ليقوم بدوره بصياغة خطاب بنيته الداخلية متماسكة، وبنيته اللغوية عالمية، وأدواته عصرية مواكبة للتطور، ومضمونه يعالج أهم ما يواجهه الفرد والمجتمع في راهنه من إشكاليات.

إن المضمون اللغوي والبنية الفكرية للخطاب وخاصة المنبري تحتاج اليوم إلى إعادة نظر حقيقية، حتى لا تتحول إلى حزايا شعبية ليس لها قيمة علمية، تتلاشى مع التقادم وتتلاشى معها حقانية الثورة الحسينية، لذلك على المعنيين إعادة النشر في المنبر الحسيني، سواء من حيث هيكليته بحيث تصبح هناك مؤسسة معنية في المنبر الحسيني ومتخصصة في تخريج خطاب متخصصين في هذا المجال، أو من حيث بنيته ومضمونه والذي يجب أن يتحول لبنية ومضمون وأهداف عالمية وإخراجه من الثوب المذهبي الضيق الذي آلبسه الحكام عبر التاريخ للثورة الحسينية، إلى الأفق العالمي الرحب الذي يسع كل مناضل يحمل أهداف وهم الحسين عليه السلام. وهذا يحتاج إعادة نظر في كل ما هو منقول حول الثورة الحسينية وأحداثها بحيث يتم تشخيص كل خبر ودراسة مصداقيته.

وهناك نقطة مهمة جدًّا في الخطاب وبنيته المضمونية وهي أن يكون الخطاب مراعيًا لأمور هامة هي:
ـ ماذا نقول
ـ كيف نقول
ـ متى نقول
ـ أين نقول

فإن ذلك سيحقق في الخطاب مقولة المقامات الخطابية والقابليات ومراتبها وكيفية مخاطبتها، مما يجعل الخطيب أكثر دراية وأكثر إحاطة بالواقع والجمهور والزمان والمكان والإشكاليات الراهنة. ويصبح أكثر فاعلية في تحقيق أهدافه بأفضل الأدوات الصالحة المتاحة، ويقدم الحق بأفضل قالب يمكن من خلاله اختراق العقول والقلوب، وتحقيق هدف الإصلاح الحسيني وخاصة الذي يحرك وعي الأمة ويرشد تجربتها.
ـــــ
1   نظرية الخطاب ( الفكر) الإسلامي/ قراءة علمية تأسيسية / د.محمد يوسف السناسيري/دار القلم ط 1/ ص 233

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد