من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد جعفر مرتضى
عن الكاتب :
عالم ومؤرخ شيعي .. مدير المركز الإسلامي للدراسات

سرية ايمان أبي طالب

 

السيد جعفر مرتضى
إننا إذا تتبعنا سير الدعوة ، ومواقف أبي طالب «عليه السلام» فإننا نجد : أنه كان بادئ ذي بدء يكتم إيمانه ، تمامًا كمؤمن آل فرعون ، والظاهر أنه قد استمر يظهر ذلك تارة ، ويخفيه أخرى إلى أن حصر الهاشميون في الشعب ، فصار يكثر من إظهار ذلك وإعلانه. وقد ورد عن الإمام الصادق «عليه السلام» قوله :
«إن مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف أسرّوا الإيمان ، وأظهروا الشرك ، فآتاهم الله أجرهم مرتين» 1 .
وعن الشعبي ، يرفعه ، عن أمير المؤمنين «عليه السلام» قال :
كان والله أبو طالب بن عبد المطلب بن عبد مناف مؤمناً مسلماً ، يكتم إيمانه؛ مخافة على بني هاشم أن تنابذها قريش. وكذا عن ابن عباس 2 .
وقد تقدم : أن محمد بن الحنفية حمل في حرب الجمل على رجل من أهل البصرة ، قال : فلما غشيته قال : أنا على دين أبي طالب ، فلما عرفت الذي أراد كففت عنه 3 .
وثمة أحاديث أخرى عديدة بهذا المعنى لا مجال لذكرها 4 .
 

لا بد من كتمان الإيمان
ونستطيع أن نقول : إن سرية إيمان أبي طالب «عليه السلام» كانت ضرورة لا بد منها؛ لأن الدعوة كانت بحاجة إلى شخصية اجتماعية قوية تدعمها ، وتحافظ على قائدها ، شرط أن لا تكون طرفاً في النزاع .
فتتكلم من مركز القوة لتتمكن الدعوة من الحركة ، مع عدم مواجهة ضغط كبير يشل حركتها ، ويحد من فاعليتها .
قال ابن كثير وغيره
«إذ لو كان أسلم أبو طالب ـ ونحن نقول لابن كثير : إنه قد أسلم ، ولكنه كتم إيمانه وإسلامه مدة ـ لما كان له عند مشركي قريش وجاهة ، ولا كلمة ، ولا كانوا يهابونه ويحترمونه ، ولاجترؤوا عليه ، ولمدوا أيديهم وألسنتهم بالسوء إليه» 5 .
مفارقات محيِّرة
وكيف يحكمون لزيد بن عمرو بن نفيل ابن عم عمر بن الخطاب ، ولولده سعيد بن زيد ، ولورقة بن نوفل ، وقس بن ساعدة ، ولأبي سفيان الذي ما فتئ كهفاً للمنافقين ، والذي ذكرنا لمحة عن تصريحاته ومواقفه في أواخر غزوة أحد في كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» .
نعم ، كيف يحكمون لهؤلاء بالإسلام؟! بل يروون عنه «صلى الله عليه وآله» : أنه قال عن أمية بن أبي الصلت : أنه كاد أن يسلم في شعره 6 .
ويقول الشافعي عن صفوان بن أمية : «وكان كأنه لا يشك في إسلامه» ، لأنه حين سَمع يوم حنين قائلاً يقول : غلبت هوازن ، وقُتل محمد ، قال له :
«بفيك الحجر ، فوالله ، لرب قريش أحب إلي من رب هوازن» .
نعم ، كيف يحكمون لكل هؤلاء بالإسلام ، أو بالاقتراب منه ، وهم لم يدركوا الإسلام ، أو أدركوه ولم يسلموا ، أو أظهروا الإسلام ، وأبطنوا الكفر؟
ثم يحكمون بالكفر على أبي طالب «عليه السلام» ، الذي ما فتئ في الفترة الأخيرة ، ربما بعد الهجرة إلى الحبشة يؤكد ويصرح عشرات المرات في أقواله وفي أفعاله ، ويعلن بالشهادة لله بالوحدانية ، ولنبيه «صلى الله عليه وآله» بالنبوة والرسالة؟! .
ذنب أبي طالب عليه السلام الذي لا يغفر


ولكننا رغم كل ذلك نقول :
إنه يؤخذ على أبي طالب «عليه السلام» شيء واحد ، هو من أكبر الذنوب ، وأعظم السيِّئات والعيوب ، التي يستحق من يتلبس بها ـ شاء أم أبى ـ الحساب العسير ، ولا بد أن يحرم لأجلها من كل امتياز ، ويسلب منه كل وسام .
وهذا الذنب العظيم والجسيم هو أنه كان أباً لذلك الرجل الذي تكرهه قريش ، ويبغضه الحكام ، ويشنؤه أهل الباطل . . وكانوا وما زالوا يتمنون له كل سوء ، وكل ما يسوء ، وقد قطعوا رحمه ، وجهدوا للحط من شأنه ، وصغَّروا عظيم منزلته ، لا لشيء سوى أنه كان قد قتل آباءهم وإخوانهم على الشرك والكفر ، وهو يدافع عن دين الله سبحانه ، ويجاهد في سبيل الله ، بين يدي رسول الله «صلى الله عليه وآله» .
وهذا الرجل هو ـ بصراحة ـ ابن عم رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وزوج ابنته ، وأبو سبطيه ، وهو المسمى بـ «علي» أمير البررة ، وقاتل الكفرة الفجرة ، الذي كان مدينة علم النبي «صلى الله عليه وآله» ، وكان الولي والوصي صلوات الله وسلامه عليه وعلى أبيه ، وعلى الأئمة الأطهار من بنيه .
فكان لا بد ـ بنظرهم ـ من نسبة كل عظيمة إليه ، وإلى أبيه أبي طالب «عليه السلام» ، ووضع الأحاديث المكذوبة في حقهما ، وتزوير تاريخهما ، ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً .
فحفلت مجاميعهم الحديثية والتاريخية بألوان من الدجل والتزوير ، وأفانين من الكذب والبهتان ، والأفائك والأباطيل ، حتى لقد نسبوا إلى أبي طالب «عليه السلام» الكفر ـ والعياذ بالله ـ ولو كان ثمة شيء أعظم من الكفر لنسبوه إليه ، ووصموه به ، كيداً منهم لعلي ، وسعياً منهم للنيل من مقامه ، وهو الذي كان ولا يزال الشوكة الجارحة في أعين الأمويين ، والزبيريين ، وجميع الحاقدين على الحق وأهله ، فظهرت منهم أنواع من الافتراءات عليه ، وعلى أخيه جعفر ، وأبيه أبي طالب ، وعلى كل شيعتهم ومحبيهم ، والمدافعين عنهم .

 

وحين بدا لهم أن ذلك لا يشفي صدورهم شفعوه بنوع آخر من الكيد والتجني ، حين سعوا إلى إطراء أعدائه ، أعداء الله ورسوله ، وأعداء الحق ، فنسبوا فضائل أولياء الله إلى أعداء الله ، حتى إنك لا تكاد تجد فضيلة ثبتت لعلي «عليه السلام» بسند صحيح عند مختلف الفرق الإسلامية ، إلا ولها نظير في مخالفيه ، ومناوئيه ، والمعتدين عليه ، ولكنها ـ في الأكثر ولله الحمد ـ قد جاءت بأسانيد ضعيفة وموهونة ، حتى عند واضعيها . .
هذا ، ويلاحظ : أن هذه الأفائك الظالمة في حق أبي طـالب «عليه السلام» قد ظهرت بعد عشرات السنين من وفاة رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، الذي كان المدافع الأول عن أبي طالب رضوان الله تعالى عليه ، كما يظهر من كثير من المواقف له «صلى الله عليه وآله» ، حدثنا عنها التاريخ ، وحفظتها لنا كتب الحديث والرواية ، رغم ما بذله الحاقدون من جهود لطمسها ، وطمس سواها من الحقائق الناصعة ، والشواهد والبراهين الساطعة .
ولو أن أبا طالب «رحمه الله» كان أباً لمعاوية مثلاً ، أو لمروان ، أو لأي من الذين تصدوا للحكم من المناوئين والمنحرفين عن أهل البيت «عليهم السلام» ، وعن خطهم ومنهجهم ، لرأيت ثم رأيت من آيات الثناء عليه ما يتلى آناء الليل ، وأطراف النهار ، ولوجدت الأوسمة تلاحقه ، وتنهال عليه من كل حدب وصوب ، وبلا كتاب ولا حساب ، ولألفيت الذين ينبزونه بتلكم الأكاذيب والأباطيل ، ويرمونه بالبهتان ، هم أنفسهم حملة رايات التعظيم والتبجيل ، والتكبير والتهليل له «رحمه الله» .


ولوجدت من الأحاديث في فضائله ومناقبه وما له من كرامات وشفاعات إن دنيا ، وإن آخرة ، ما يفوق حد الحصر ، وما يزيد ويتضاعف باطراد في كل عصر ومصر . .
ولربما تجد من يدَّعي : أن أبا طالب «عليه السلام» قد آمن بالنبي حتى قبل أن يبعث «صلى الله عليه وآله» ، كما ادَّعوه لبعض من يوالونهم ويحبونهم!!
ولعل بعضهم يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك ، فيقول فيه كما قالوه في بعض أسلافهم : لو لم أبعث فيكم لبعث فلان!! أو ما شاكل ذلك .
هذا إن لم يدَّعوا له مقام النبوة ، أو ما هو أعظم من ذلك كما ادَّعوا ذلك ليزيد لعنه الله ، قاتل الإمام الحسين «عليه السلام» ، وهادم الكعبة .
ولكننا نقول : إن أبا طالب «عليه السلام» قد كان محظوظاً جداً ، حيث لم يكن قريباً لهؤلاء ، ولا لمن يتولاه هؤلاء ، فنجا من أن تنسب إليه فضائل مكذوبة ، ومن أن يعطى أوسمة لا حقيقة لها ، إذ يكفي هذا الرجل من الفضائل والأوسمة ما كان قد ناله عن جدارة واستحقاق بجهاده ، وبإخلاصه ، وبعمله الصالح الذي نال به رضا الله سبحانه ، وذلك هو الفضل العظيم ، والحظ الأسعد ، والمقام الأمجد .
مفارقات . . ذات دلالة


والغريب في الأمر : أن من هؤلاء القوم ، من يرى أن قاتل عمار بن ياسر من أهل الجنة ، وأن ابن ملجم مجتهد في قتله الإمام علياً «عليه السلام» ، ثم هم يدافعون عن يزيد بن معاوية لعنه الله ، ويعتبرونه من أهل الجنة ، بل ادَّعى له بعضهم النبوة قبحهم الله وإياه .
كما أن البعض كابن عربي يرى : أن فرعون مؤمن ، وأن عبدة العجل موحدون مؤمنون ، إلى غير ذلك من ترهات وأباطيل وأضاليل .
هذا عدا عن أنهم قالوا : إن حاتم الطائي يدخل النار لكنه لا يعذب بها لجوده ، وأن كسرى لا يعذب لعدله ، وأن أبا سفيان ، أبا معاوية الذي يقول لعثمان حينما صارت إليه الخلافة :
قد صارت إليك بعد تيم وعدي ، فأدرها كالكرة ، واجعل أوتادها بني أمية ، فإنما هو الملك ، ولا أدري ما جنة ولا نار 7 .
إن أبا سفيان هذا ، مؤمن تقي عادل ، معصوم ، وأبو طالب «عليه السلام» ـ أو فقل : أبو الإمام علي «عليه السلام» ـ كافر مشرك ، وفي ضحضاح من نار ، يبلغ كعبه ، ويغلي منه دماغه!!
نعم . . ما عشت أراك الدهر عجباً!! .


حال أبي طالب عليه السلام حال رسول الله
وبعد . . فإن حال أبي طالب «عليه السلام» مع الأمويين وأشياعهم ، ومن افترى عليه بغضاً منه بولده علي «عليه السلام» . . يشبه إلى حد كبير حال النبي «صلى الله عليه وآله» مع المشركين ، الذين حكى القرآن حالهم بقوله :
﴿ وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ﴾ 8
إن مبغضي أبي طالب يقولون : لن نقر بإيمان هذا الرجل ، ولو تضافرت على ذلك كل الأدلة والشواهد ، وحتى لو نص الله ورسوله عليه .
فبئس الخلف من الأمويين وأشياعهم ، ومن الزبيريين وأتباعهم ، ومن كل شانئ لعلي ، ومصغر لشأنه ، لبِئس السلف من طواغيت الجاهلية وعتاتها ، ومن قتلة الأنبياء وفراعنة الأرض ، وجبابرتها .
 

أبو لهب ونصرة النبي
ثم إننا نشير أيضاً هنا إلى أنهم يذكرون : أنه بعد أن توفي أبو طالب «عليه السلام» أعلن أبو لهب استعداده لنصرة النبي «صلى الله عليه وآله» .
فاحتالت قريش ، فأخبرته أنه يقول : إن أباك عبد المطلب في النار ، فسأله عن ذلك ، فأخبره بما طابق ما أخبروه به؛ فتخلى عن نصرته ، وانقلب ليكون عدواً له ما عاش 9 .
ونقول :
إننا لا نشك في كذب هذه القضية .
أولاً : كيف لم يعلم أبو لهب طيلة عشر سنين من عدائه للنبي ، ومحاربته له : أن هذا هو رأيه «صلى الله عليه وآله» ورأي الإسلام في كل من يموت مشركاً بالله تعالى؟! وعلى أي شيء كان يحاربه طيلة هذه المدة إذن؟! .
بل إن أبا لهب كان من أهم الشخصيات القوية التي كانت تدير حركة الصراع ضد الإسلام العظيم ، ونبيه الكريم ، فكيف يمكن أن يجهل حملة لواء الشرك هذا الأمر ، ويعرفه غيرهم؟!
ثانياً : لماذا عاداه في حياة أبي طالب «عليه السلام» ، ثم عاد إلى حمايته ونصرته بعد وفاته؟! .
أو لماذا لم يفعل أبو لهب مثل فعل أبي طالب «عليه السلام»؟!
ثالثاً : قد أسلفنا أن عبد المطلب لم يكن مشركاً ، بل كان على دين الحنيفية مؤمناً صادق الإيمان .


سر افتعال الرواية
•  ولعل سر افتعال هذه الرواية هنا هو إظهار : أن حماية أبي طالب «عليه السلام» للرسول قد كانت بدافع العصبية والحمية القبلية ، أو الحب الطبيعي .
ولكن أين كانت حمية وعصبية أبي لهب قبل هذا الوقت ، وأين كان حبه الطبيعي لابن أخيه؟
ولا سيما حينما حصرت قريش الهاشميين في الشعب ، وكادوا يهلكون جوعاً؟! .
وأين ذهبت حميته بعد ذلك؟
وهو الذي كان يتتبع النبي محمداً «صلى الله عليه وآله» من مكان إلى مكان يؤذيه ، ويصد الناس عنه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

ـــــــــ
1. أمالي الصدوق ص551 ، وشرح النهج للمعتزلي ج14 ص70 ، وأصول الكافي ج1 ص373 ، وروضة الواعظين ص139 ، والبحار ج35 ص72 و 111 والغدير ج7 ص380 ـ 390 عنهم وعن : الحجة لابن معد ص17 و 115 وتفسير أبي الفتوح ج4 ص212 ، والدرجات الرفيعة ، وضياء العالمين .
•  2. الغدير ج7 ص388 عن كتاب الحجة ص24 و 94 و 115 . وراجع أمالي الصدوق ص550 .
•  3. الطبقات الكبرى لابن سعد ج5 ص67 .
•  4. راجع الغدير ج7 ص338 ـ 390 عن : الفصول المختارة ص80 وإكمال الدين ص103 ، وكتاب الحجة لابن معد عن أبي الفرج الأصفهاني .
•  5. البداية والنهاية ج3 ص41 ، وراجع السيرة النبوية لدحلان ج1 ص46 .
•  6. صحيح مسلم ج7 ص48 و 49 ، والأغاني (ط ساسي) ج3 ص190 ، والتراتيب الإدارية ج1 ص213 .
•  7. النزاع والتخاصم ص20 والصحيح من سيرة النبي الأعظم ج7 ص284 .
•  8. القران الكريم: سورة الإسراء (17)، الآيات: 90 - 93، الصفحة: 291.
•  9. راجع على سبيل المثال : البداية والنهاية ج3 ص134 عن ابن الجوزي وتاريخ الخميس ج1 ص302 .

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد