مقالات

الغدير الإلهي

الإمام الخميني "قدس سره"

عيد الغدير: خليفة رسول الله أمر إلهي

أُطلق على عيد الغدير اسم "عيد الله الأكبر"؛ إنّه عيد أكبر من كلّ الأعياد الموجودة في التقويم الإسلامي، وأعمقها معنى، وتأثيره أكبر من كلّ هذه الأعياد. لماذا؟ لأنّ حادثة الغدير هذه قد حدّدت تكليف الأمّة الإسلاميّة من ناحية التوجيه ومن ناحية الحكومة. لا كلام في أنّه لم يجرِ العمل بوصيّة الرسول الأعظم (ص) في الغدير- وطبقًا لبعض الروايات كان الرسول قد أخبر أنّه لن يجري العمل بها- بيد أنّ قضيّة الغدير قضيّة إيجاد مؤشّر ومعيار وميزان يستطيع المسلمون حتى آخر الدنيا أن يضعوا هذا المؤشّر والمعيار نصب أعينهم ويحدّدوا وفقه وظيفة الأمّة ومسارها العام. حينما اختار الرسول الأكرم (ص) أكثر الأزمنة حساسيّة لإعلان قضيّة الولاية لم يكن هذا اختيار الرسول نفسه بل اختيار الله تعالى. جاء الوحي من الله أن: {بلِّغ ما أنزل إليكَ من ربّك}1. لا أنّ الرسول لم يكن يعلم قضيّة الإمامة والولاية من خالقه قبل هذا.

بلى، كانت هذه القضيّة واضحة له وجليّة منذ بداية البعثة. ثمّ كشفت الأحداث المختلفة طوال هذه الأعوام الثلاثة والعشرين الحقيقة وأجلتها بحيث لم يبقَ أيّ موضع للشك. لكنّ الإعلان الرسمي يجب أن يتمّ في أكثر الأزمنة حساسيّة وبأمرٍ من الله: {بلِّغ ما أنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته}2. أي إنّ هذه رسالة إلهيّة يجب أن تُلقها إلى الناس. ثمّ حين أوقف النبي المكرَّم الناس في غدير خم بالقرب من الجحفة، وجمع قوافل الحجّاج وأعلن عن هذه المسألة، نزلت الآية الشريفة: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي}3، اكتملت النعمة واكتمل الدين. في سورة المائدة المباركة وقبل آية{اليوم أكملت} هناك الآية المباركة: {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون}4؛ اليوم هو يوم يأس الأعداء وقنوطهم، أي إنّ المعيار والمؤشّر قد اتّضح، ومتى ما أرادت الأمّة ومتى ما فتحت عينها على الحقيقة سوف ترى المؤشّر والمعيار ولن يبقى لديها أي شك؛ هنا تكمن أهميّة الغدير.

إنّ قضيّة الإمامة والولاية كما جاءت في التاريخ الإسلامي، واضحة ومشخّصة، هي قضيّة إلهيّة. لا أنّ الرسول الأكرم (ص) انتخب الإمام عليًا بحساباته الشخصيّة. مع أنّ الحسابات الشخصيّة أيضًا ترشد أيّ إنسان إلى أنّ الإمام عليًا هو خليفة الرسول، إلّا أنّ خطوة الرسول كانت خطوة إلهيّة.

منذ بداية البعثة حينما عرض الرسول الأكرم (ص) رسالته على قبائل العرب المختلفة في مكّة وعرض عليها الإسلام- وهذه قصة طويلة في تاريخ بدايات البعثة وما قبل الهجرة– حيث توجّه إلى هذه القبيلة وإلى تلك القبيلة. مثال زعيم إحدى القبائل المذكور في التاريخ5 قال للرسول: إنّنا على استعداد للإيمان بالإسلام بصفة جماعيّة ولكن هناك شرط، والشرط هو أن يكون هذا الأمر لنا من بعدك. أي يجب أن يكون رئيس قبيلتنا خليفة من بعدك.

وقد ورد في التاريخ أنّ الرسول قال في جواب هذا الشخص: لا "هذا أمر سماوي". هذه مسألة ليست بيدي، إنّما هي قضيّة سماويّة وبيد الله؛ فلم تؤمن تلك القبيلة وانصرفت. إذًا، تقوم مسألة خلافة الرسول على أساس الوحي الإلهي، وعلى أساس إرادة الخالق، وليست بيد الرسول.

الإمام علي: مقام شامخ ونموذج كامل

ولكن إذا أراد الرسول الأكرم أن ينتخب فمن كان يجب أن يختار؟ الشخص الذي كان سيختاره النبي الأكرم طبعًا هو من تجتمع فيه كافّة المعايير الأساسيّة للإسلام بحدودها الكاملة. ويمكن للمسلمين في العالم أن يحسبوا ويقيّموا شخصيّة الإمام علي6، وينظروا في المعايير، ويضعوها بجوار بعضها، ويقارنوا على أساس القرآن والسنة، ويروا من الذي كان سيُنتخب.

علم الإمام علي، والعلم أحد المعايير. وفقًا لروايات جميع المسلمين -الشيعة والسنة- يقول الرسول الأكرم (ص) حول الإمام علي: "أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها"7. فأيّ شهادة فوق هذه؟ وحول جهاد الإمام علي يقول الله تعالى: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله}8. آية قرآنيّة نزلت في جهاد الإمام علي وإيثاره، ولم تنـزل هذه الآية في غيره. وحول إنفاق الإمام علي: {ويطعمون الطعام على حبّه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا}9. والإمام علي وآله المكرمون المقرّبون مشمولون بالآية الكريمة: {إنّما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}10. وقد قال الجميع أنّها نزلت في أمير المؤمنين. وهذه المعايير- المعايير المتعدّدة للتفوق والتميّز في الإسلام - من علم، وتقوى، وإنفاق، وإيثار، وجهاد، وباقي المعايير الواردة في الإسلام تنطبق كلّها على الإمام علي واحدًا واحدًا. من الذي بوسعه إنكار هذه الأمور في علي بن أبي طالب (عليه السلام)؟

دعوتنا لجميع مسلمي العالم هي أن يتأمّلوا في هذه الحقائق. إنّنا في عالم وحدة الأمّة الإسلاميّة لا نصرّ أبدًا على أن تقبل إحدى الفرق عقائد فرقة أخرى. لا، ليست الوحدة بهذا المعنى. تعني الوحدة التركيز على المشتركات على الرغم من العقائد المختلفة والشعب المتفاوتة، وعدم جعل مواطن الاختلاف سببًا للاقتتال والحرب والعداء بين الإخوة؛ هذه هي قضيّة الوحدة.

ولكن بعنوان التعبير عن الحقيقة وطلب الحقيقة فمن المنطقيّ الطلب من جميع المسلمين: أن يبحثوا ويحقّقوا ويلاحظوا ما كتبه باحثو الشيعة، وما جمعه علماء الشيعة الكبار في زماننا وكتبوه وحقّقوه وعرضوه في العالم الإسلامي، وقد حظيت كتاباتهم بتقدير علماء الإسلام ومثقّفي الإسلام والشخصيّات الإسلاميّة البارزة. فليلاحظوا هذه الأعمال، ولا يحرموا أنفسهم منها ولا يقيّدوها: كتب المرحوم السيد شرف الدين العاملي (رضوان الله عليه) وكتاب الغدير للعلامة الأميني. هذه كلّها حقائق جُمعت ودُوّنت. قضيّة الغدير قضيّة تاريخيّة مسلّم بها في عشرات الكتب. يروي المرحوم الأميني عشرات الطرق من طرق أهل السنّة تروي حادثة الغدير بالشكل الذي نرويه نحن. وهذا ليس موجودًا في كتبنا نحن فقط.

 قد يناقش البعض في معنى كلمة "مولى" وقد لا يناقش بعضهم الآخر. الحادثة حادثة حقيقيّة وواقعيّة وهي مبيِّنة للمعايير. واضح أنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه آلاف التحية والثناء) هو قمّة شامخة؛ سواء كحاكم إسلامي وحكومة إسلاميّة، أو كفرد مسلم.

"شباب" هذا الإنسان الكبير هي نموذج لشباب الأمّة الإسلاميّة. أن يرى الحقيقة بكلّ ذلك الصفاء والصدق والبصيرة، ويعرفها ويجري وراءها ويدافع عنها بكلّ كيانه، ويجوب ميادين الخطر، ولا يرى الأخطار ولا يكترث لها، ولا ينحرف عن طريق الصواب قيد أنملة، ويتبع خطى الرسول {يحذو حذو الرسول}11، ويسير خلف النبي خطوة خطوة، ويسلّم ويُذعن للأوامر الإلهيّة وأوامر الرسول الأكرم (ص) تسليمًا محضًا، وفي الوقت ذاته كان يضيف على علمه لحظة بعد لحظة، ويطبّق عمله على علمه في كلّ لحظات حياته؛ هذا عن فترة شباب الإمام علي.

وكذلك فترة كهولته وشيخوخته (عليه السلام) هي محفوفة بالامتحانات العسيرة والاختبارات العجيبة الغريبة. وقد أبدى في جميعها الصبر العظيم الجميل، وقدّم مصلحة الإسلام -حينما كانت مصلحة الإسلام في خطر- على كلّ شيء حتى على حقّه المفروغ منه. كان بإمكان الإمام علي حينما شعر أنّ حقّه يُضيّع، أن يثور، فهو لا يخاف من أحد.

كان شخصًا إذا تقدّم إلى الميدان فهناك من سيتبعه بلا شك ولكن "فأمسكتُ يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد صلّى الله عليه وآله"12. يقول: وجدت أنّ هناك دوافع تعارضُ أصل الدين وهي تتغلغل في القلوب وتنمو، وأنّ ثمّة أعداءَ ومعارضين يريدون انتهاز الظرف؛ لذلك نزلتُ إلى الساحة ودافعتُ عن أساس الدين وتنازلت عن حقي وتجاوزت.

هكذا يراعي مصلحة الإسلام بكلّ كيانه. وعندما حان دوره للحكم والسياسة بحسب التقدير الإلهي، ينهال عليه الناس ويصرّون عليه أن يمسك زمام السلطة، فينـزل إلى الساحة بكلّ اقتدار {لا يخاف في الله لومة لائم}.لا يخاف أيّ شيء، ولا تثنيه أيّة لومة عن مواصلة هذا الطريق. إنّ أمير المؤمنين نموذجٌ كامل؛ هذا هو ذلك الإنسان الشامخ السامق الذي ترى له الشيعة كلّ ذلك المقام والعظمة. من المناسب أن تلتفت الأمّة الإسلاميّة جميعها إلى ذلك.

ــــــــــــــ

1- سورة المائدة، الآية: 67.
2- سورة المائدة، الآية: 67.
3- سورة المائدة، الآية: 3.
4- سورة المائدة، الآية: 3.
5- استطراد القائد هذه من مسلمات التاريخ ولا دور لقضايا التشيع والتسنن في طرح هذه الوقائع، بل إنّ أخوتنا أهل السنة أنفسهم يروونها وينقلونه
6- استطراد القائد: صحيح أنه تروى أحاديث مختلفة في فضيلة بعض الصحابة
7- الاحتجاج، ج1، ص78.
8- سورة البقرة، الآية: 207.
9- سورة الإنسان، الآية: 8.
10- سورة المائدة، الآية: 55.
11-  مفاتيح الجنان، دعاء الندبة
12- نهج البلاغة، ص451، الكتاب رقم 62.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد