﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ... ﴾ (1) :
هناك أناس ينظرون إلى هذه الحياة الدنيا على أنها هي كل شيء بالنسبة إليهم ، وليس قبلها ولا بعدها شيء ، ويتعاملون مع كل ما ومن يحيط بهم على أساس هذه النظرة ، ومن خلالها .
ومعنى ذلك : أن تصبح معاييرهم التي يقيسون بها الأمور معايير دنيوية ، وعلى أساس الربح والخسارة فيها ، وليس ثمة شيء وراء ذلك .
فلا غرو إذا كان الموت يمثل لهؤلاء الناس ـ حسب نظرتهم تلك ـ ضياعاً وخسراناً ، وخيبة مُرّةً وقاسية ، لأنهم يرون فيه نهاية سعادة وحياة ، وبداية عدم وفناء ، وربما بداية شقاء وبلاء ، لا تحده حدود ، ولا تقيده قيود .
إذن فلماذا لا يجنّبون أنفسهم كارثة الموت هذه ، والتي ليس فوقها كارثة ، ويحرصون على البقاء في هذه الدنيا ، ليعيشوا فيها حياتهم حتى لو كانت أحقر ، وأتفه ، وأخسّ حياة . قال تعالى حكاية عن اليهود : ﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ... ﴾ (1) . علماً بأنهم لا يجدون في توراتهم المحرفة التي يتداولونها اهتماماً بأمر الآخرة . . بالمستوى الذي يصبح هاجسهم الأول والأخير . . بل قد تجد فيهم فرقاً لا تعترف بالآخرة أو لا تعتقد بها إلا بدرجة ضعيفة وغائمة .
نظرة المؤمنين للموت
أما الذين يؤمنون بالله ، وبأنبيائه ورسله ، وبالآخرة ، فإنهم ـ بحسب ما علمهم إياه القرآن ، ونبي الإسلام ( صلى الله عليه وآله ) ـ ينظرون إلى الموت نظرة تختلف كثيراً عن نظرة غيرهم . ويمكن تلخيص ذلك في ما يلي من نقاط :
خلق الموت و الحياة
قال تعالى : ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ... ﴾ (2) .
فالآية الكريمة قد ذكرت الموت ، قبل أن تذكر الحياة . ثم صرحت بأن الموت مخلوق له تعالى ، تماماً كما هي الحياة .
ثم ذكرت : أن السر في خلق الموت والحياة هو وضع الإنسان على المحك ، بهدف دفعه لمواصلة تحركه نحو الأفضل والأحسن في مسيرته التكاملية ، في نطاق جوٍ مثير يهيمن عليه تنافس إيجابي ، باتجاه تكوين وصنع الحياة ، والتأثير فيها وإثارتها لتتجسد عملاً ذا ميزات جمالية تنمو وتتكامل في جماليتها من حسن إلى أحسن بصورة مطردة .
فالموت والحياة معاً لهما دورهما الإيجابي في بناء الحياة ، وفي تكامل الإنسان في إنسانيته ، من حيث إنهما ينتجان عملاً حسناً ، بل ومتميزاً في حسنه وجماليته ، يكون هو الرصيد الذي يؤهل الإنسان للمشاركة في الحياة الحقيقية التي لا تصلح إلا للإنسان الذي استوفى باختياره ، وبجهده وعمله الدؤوب خصائصه ، وميزاته الإنسانية ، ﴿ ... لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ... ﴾ (3) .
وفي حياته الحقيقية تلك ـ أعني في الآخرة ـ يصبح أكثر وأعمق إحساساً بالأمور ، حيث تتساقط الحجب التي تؤثر على مستوى إحساسه وإدراكه ، ولأجل ذلك كانت هذه الحياة « حياة دنيا » ، لتدني مستوى الشعور ، والإدراك والإحساس فيها ، لأنه محجوب بالوسائط ، ومستند في الأكثر (4) إلى التخيل استناداً إلى صور ذهنية عن الحقائق الراهنة ، ساهمت الحواس بإيصالها إليه . بالإضافة إلى حاجز الشهوات والهوى ، وإلى الآثام والمعاصي التي تزيد من طغيان الجسد ، وتضعف القدرات الروحية لديه ، فيتضاءل إحساسه بالحقائق ، ويتقاصر فهمه عنها .
أما الآخرة فقد قال الله عنها : ﴿ ... وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ (5) .
وقال تعالى : ﴿ ... فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾ (6) .
وخلاصة الأمر : أن الإنسان يجتاز مرحلة الموت ، ليصل إلى عالم البرزخ ومعه رصيده العتيد ، من عمل حسن وأحسن ، ويتخلص من كل ما يحجزه عن مواصلة مسيرته التكاملية نحو الله سبحانه ليفوز بقربه كما قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾ (7) ، فيصل إلى البرزخ الذي هو بمثابة بوتقة يتم فيها تأهيل من يحتاج إلى التأهيل لاستقبال الحياة الحقيقية ، التي هي حياة الآخرة ، بكل حيوية ونقاء وصفاء ، ويكون هو بداية الفوز والنجاح ، وهو باب الخير والفلج والفلاح ، وأول طريق الأمن والسلامة والنجاة من المخاطر ، التي تنشأ من طغيان الشهوات ، ودواعي الغرائز والأهواء .
فبالموت يملك الإنسان المؤمن نفسه ، ويتحرر من شهواته ، ويستفيد من كل جهات وجوده ، ومن طاقاته بصورة كاملة ، وبه يخرج من سجن قاس ومرهق أيضاً . . وما أحلى أن يحصل الإنسان على حريته وأن يكون هو سيد نفسه ، ويواصل انطلاقته نحو الله في رحاب ملكوته . ليحيا هناك الحياة التامة بكل وجوده وطاقاته وأحاسيسه ، قال تعالى : ﴿ ... وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ (5) .
ولا غرو أن يكون هذا الموت حبيباً ولذيذاً ، كما قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه » (8) .
وقد وصف الإمام الحسين ( عليه السلام ) أصحابه فقال : « يستأنسون بالمنية دوني استئناس الطفل إلى محالب أمه » (9) .
وسأل الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، القاسم بن الحسن ( عليهما السلام ) : يا بني كيف الموت عندك؟!
قال : يا عم أحلى من العسل (10) .
وحين قال ابن زياد لعنه الله للعقيلة زينب سلام الله عليها : كيف رأيت فعل الله بأهل بيتك ؟ قالت : ما رأيت إلا جميلاً (11) .
وحين ضرب ابن ملجم لعنه الله ، أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، قال صلوات الله وسلامه عليه : فزت ورب الكعبة (12).
إلى غير ذلك من نصوص كثيرة تدخل في هذا المجال .
هذا بالإضافة إلى ما يشير إليه قوله تعالى : ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ﴾ (13) .
وبكلمة
إن الموت هو سر الحياة ، وهو يعطيها معناها ومغزاها ، وقيمتها . وهو غاية زينتها وبهجتها ، وهو سر الطموح ، وسر الحركة الدائبة باتجاه الأفضل فيها ، وسر سعي الإنسان إلى كماله ، وكدحه إلى ربّه ، وسرّ ملاحقته لأسرار الكون وخفاياه ، ليستفيد منها في ترسيخ حالة الأمن والسلامة القصوى في حاضره وفي مستقبله على حدٍّ سواء .
هذا . . بالنسبة للمؤمن . .
أما غير المؤمن فيرى في الموت خسراناً لنفسه ، وبواراً لأهدافه وطموحاته ، ولن يكون قادراً في الآخرة على نيل درجات القرب ، ولا على الانطلاق في رحاب ملكوت الله سبحانه ، أو الإحساس بجلاله وجماله ، إحساساً حقيقياً وعميقاً ، لا يقتصر على مجرد المعرفة الذهنية ، بل هو سيكون منشغلاً بنفسه ، وبآلامه في ظلمات الجحيم ، حيث ﴿ ... وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ... ﴾ (14) ; وهو في الآخرة . كما في الدنيا أعمى ، بل هو أضلُّ وأشقى قال تعالى : ﴿ وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ﴾ (15) .
الموت قلادة على جيد الفتاة
وما أروع ما روي عن الإمام الحسين ( عليه السلام ) في هذا المجال ، حيث قال في مكة وهو متوجه إلى كربلاء : « خُطّ الموت على ولد آدم مَخَطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف إلخ . . » (16) .
فقد بين ( عليه السلام ) حتمية الموت وأنه هو زينة الحياة ، يزيدها جمالاً ، وبهاءً ورونقاً ، ويعطيها المزيد من البهجة واللذة ، تماماً كما هو الحال بالنسبة للقلادة إذا كانت على جيد الفتاة ، فإنها تكون زينة لها ، تشدُّ الأنظار إليها ، وتزيد من تعلق القلوب بها .
ويستوقفنا هنا التعبير بكلمة : « جيد » التي توحي بالجودة ، وهو تعبير مريح للنفس ، مثير للكثير من المعاني اللذيذة في أعماقها .
كما ويلفت نظرنا أيضاً اختيار خصوص الزينة التي في هذا الموقع الحساس من جسد المرأة ، بما يثيره من إيحاءات تنبعث من صميم الإغراء الأنثوي ، وفي النقطة المركزية والأساس فيه .
ثم إنه ( عليه السلام ) يختار التعبير بكلمة « الفتاة » بدلاً من كلمة « المرأة » ونحوها . لأن الفتاة وليس سواها ، هي التي تمثل القمة في الحيوية ، والطموح ، والجمال ، وما إلى ذلك .
فهذا موقع الموت ، وهذه هي حساسيته ، وبذلك تظهر أهميته .
ــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1. a. b. القرآن الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 96 ، الصفحة : 15 .
2. القرآن الكريم : سورة الملك ( 67 ) ، الآية : 2 ، الصفحة : 562 .
3. القرآن الكريم : سورة هود ( 11 ) ، الآية : 7 ، الصفحة : 222 .
4. إذ إن بعض المدركات تكون عبر الإحساس الحقيقي بها ، من قبيل الإحساس بالجوع والعطش ، وكذا بعض الحقائق النفسية أيضاً .
5. a. b. القرآن الكريم : سورة العنكبوت ( 29 ) ، الآية : 64 ، الصفحة : 404 .
6. القرآن الكريم : سورة ق ( 50 ) ، الآية : 22 ، الصفحة : 519 .
7. القرآن الكريم : سورة الانشقاق ( 84 ) ، الآية : 6 ، الصفحة : 589 .
8. نهج البلاغة [ بشرح عبده ] : 1 / 41 ط دار المعرفة ـ بيروت ـ لبنان .
9. مقتل الحسين للمقرم : 262 .
10. اللهوف : 82 و83 و نفس المهموم : 208 .
11. اللهوف : 67 ونفس المهموم : 371 .
12. ترجمة الإمام علي ( عليه السلام ) من تاريخ دمشق : 3 / 303 وينابيع المودة : 65 ومقتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، لابن أبي الدنيا [ مطبوع في مجلة تراثنا ] سنة 3 عدد 3 ص 96 .
13. القرآن الكريم : سورة الفجر ( 89 ) ، الآية : 27 و 28 ، الصفحة : 594 .
14. القرآن الكريم : سورة إبراهيم ( 14 ) ، الآية : 17 ، الصفحة : 257 .
15. القرآن الكريم : سورة الإسراء ( 17 ) ، الآية : 72 ، الصفحة : 289 .
16. اللهوف على قتلى الطفوف ، لابن طاووس : 25 ومقتل الحسين للمقرم : 190 عنه وعن ابن نما : 20 .
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
عدنان الحاجي
الأستاذ عبد الوهاب حسين
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
هل خلق آدم للجنّة أم للأرض؟
معنى (الدعاء الملحون)
اختلاف آراء الفلاسفة المادّيّين في حقيقة المادّة
كتاب الدّين والضّمير، تهافت وردّ
عوامل احتمال الإصابة بالسّكتة الدّماغيّة الحادّة
صراع الإسلام مع العلمانية
طريقة إعداد البحث
القانون والإيمان باللّه
المادة والحركة
فهم عالم المراهقة، محاضرة للعليوات في برّ سنابس