لـمّا كنّا نعرف، أن وجود المعلول مرتبط ارتباطًا ذاتيًّا بوجود العلّة. فنستطيع أن نفهم مدى ضرورة العلّة للمعلول، وأن المعلول يجب أن يكون معاصرًا للعلّة. ليرتبط بها كيانه ووجوده، فلا يمكن له أن يوجد بعد زوال العلّة، أو أن يبقى بعد ارتفاعها. وهذا هو ما شئنا أن نعبر عنه بقانون (التّعاصر بين العلّة والمعلول).
وقد أثيرت حول هذا القانون مناقشتان راميتان إلى إثبات أن من الممكن بقاء المعلول بعد زوال علّته. إحداهما للمتكلمين، والأخرى لبعض علماء الميكانيك الحديث.
المناقشة الكلامية:
وهي تستند إلى أمرين:
الأول: إن الحدوث هو سبب حاجة الأشياء إلى أسبابها. فالشيء إنما يحتاج إلى سبب، لأجل أن يحدث، فإذا حدث، لم يكن وجوده بعد ذلك مفتقرًا إلى علّة. وهذا يرتكز على نظرية الحدوث، التي تبيّنا خطأها... وعرفنا أن حاجة الشيء إلى العلّة، ليست لأجل الحدوث، بل لأن وجوده مرتبط بسببه الخاص ارتباطًا ذاتيًّا.
الثاني: إن قانون التّعاصر بين العلّة والمعلول، لا يتفق مع طائفة من ظواهر الكون، التي تكشف بوضوح عن استمرار وجود المعلول، بعد زوال العلة. فالعمارة الشاهقة التي شادها البّناؤون، واشترك في بنائها آلاف العمال، تبقى قائمة بعد انتهاء عملية البناء والتعمير، وإن تركها العمال، ولم يبق منهم بعد ذلك شخص على قيد الحياة. والسيارة التي أنتجها مصنع خاص، بفضل عماله الفنيين، تمارس نشاطها، وقد تبقى محتفظة بجهازها الميكانيكي، وإن تهدم ذلك المصن ، ومات أولئك العمال.
والمذكرات التي سجلها شخص بخطه، تبقى بعده مئات السنين، تكشف للناس عن حياة ذلك الشخص وتاريخه. فهذه الظواهر تبرهن، على أن المعلول يملك حريته بعد حدوثه، وتزول حاجته إلى علته، والواقع أن عرض هذه الظواهر، كأمثلة لتحرر المعلول بعد حدوثه من علته، نشأ من عدم التمييز بين العلة وغيرها. فنحن إذا أدركنا العلة الحقيقية لتلك الأمور - من بناء الدار، وجهاز السيارة. وكتابة المذكرات - نتبين أن تلك الأمور لم تستغن عن العلة، في لحظة من لحظات وجودها، وأن كل أثر طبيعي يعدم في الآن الذي يفقد فيه سببه. فما هو المعلول للعمال المشتغلين ببناء العمارة، إنما هو نفس عملية البناء، وهي عبارة عن عدة من الحركات والتحريكات، يقوم بها العامل بقصد جمع مواد البناء الخام من الآجر والحديد والخشب وما إليها.. وهذه الحركات لا يمكن أن تستغني عن العمال في وجودها، بل تنقطع حتمًا في الوقت الذي يكف فيه العمال عن العمل.
وأما الوضع الذي حصل لمواد البناء على أثر عملية التعمير، فهو في وجوده واستمراره معلول لخصائص تلك المواد، والقوى الطبيعية العامة، التي تفرض على المادة المحافظة على وضعها وموضعها. وكذلك الأمر في سائر الأمثلة الأخرى. وهكذا يتبخر الوهم الآنف الذكر، إذا أضفنا كل معلول إلى علته، ولم نخطئ في نسبة الآثار إلى أسبابها.
المعارضة الميكانيكية:
وهي المعارضة التي أثارها الميكانيك الحديث، على ضوء القوانين التي وضعها (غاليليو) و(نيوتن) للحركة الميكانيكية، مدعيًا - على أساس تلك القوانين - أن الحركة إذا حدثت بسبب فهي تبقى حتمًا. ولا يحتاج استمرارها إلى علة، خلافًا للقانون الفلسفي الذي ذكرناه.
ونحن إذا تعمقنا في درس هذه المعارضة، وجدنا أنها تؤدي في الحقيقة إلى إلغاء مبدأ العلية رأسًا، لأن حقيقة الحركة - كما سبق في الدراسات السابقة - عبارة عن التغير والتبدل، فهي حدوث مستمر، أي حدوث متصل بحدوث، وكل مرحلة من مراحلها حدوث جديد، وتغير عقيب تغير. فإذا أمكن للحركة أن تستمر دون علة، كان في الإمكان أن تحدث الحركة دون علة، وأن توجد الأشياء ابتداء بلا سبب، لأن استمرار الحركة يحتوي على حدوث جديد دائمًا، فتحرره من العلة يعني تحرر الحدوث من العلة أيضًا.
ولأجل أن يتضح عدم وجود مبرر لهذه المعارضة، من ناحية علمية، يجب أن نحدث القارئ عن قانون القصور الذاتي، في الميكانيك الحديث، الذي ارتكزت عليه المعارضة.
إن التفكير السائد عن الحركة قبل (غاليليو)، هو أنها تتبع القوة المحركة، في مدى استمرارها وبقائها. فهي تستمر ما دامت القوة المحركة موجودة، فإذا زالت سكن الجسم، ولكن الميكانيك الحديث، وضع قانونًا جديدًا للحركة، وفحوى هذا القانون، أن الأجسام الساكنة والمتحركة، تبقى كذلك (ساكنة أو متحركة)، إلى أن تتعرض لتأثير قوة أخرى كبرى بالنسبة لها، تضطرها إلى تبديل حالتها.
والسند العلمي لهذا القانون، هو التجربة، التي توضح أن جهازًا ميكانيكيًّا متحركًا بقوة خاصة في شارع مستقيم، إذا انفصلت عنه القوة المحركة، فهو يتحرك بمقدار ما بعد ذلك، قبل أن يسكن نهائيًّا. ومن الممكن في هذه الحركة، التي حصلت بعد انفصال الجهاز عن القوة الخارجية المحركة، أن يزاد في أمدها، بتدهين آلات الجهاز، وتسوية الطريق، وتخفيف الضغط الخارجي. غير أن هذه الأمور لا شأن لها، إلا تخفيف الموانع عن الحركة من الاصطكاك ونحوه، فإذا استطعنا أن نضاعف من هذه المخففات، نضمن مضاعفة الحركة، وإذا افترضنا ارتفاع جميع الموانع، وزوال الضغط الخارجي نهائيًّا، كان معنى ذلك استمرار الحركة إلى غير حد بسرعة معينة، فيعرف من ذلك أن الحركة إذا أثيرت في جسم، ولم تعترضها قوة خارجية مصادمة، تبقى بسرعة معينة، وإن بطلت القوة. فالقوى الخارجية إنما تؤثر في تغيير السرعة عن حدها الطبيعي، تنزل أو ترتفع بها. ولذلك كان مدى السرعة - من حيث الشدة والضعف والبطء - يتوقف على الضغط الخارجي، الموافق أو المعاكس. وأما نفس الحركة واستمرارها بسرعتها الطبيعية، فلا يتوقف ذلك على عوامل خارجية.
ومن الواضح أن هذه التجربة حين تكون صحيحة، لا تعني أن المعلول بقي من دون علة، ولا تعاكس القانون الفلسفي، الذي ذكرناه، لأن التجربة لم توضح ما هي العلة الحقيقية للحركة، لنعرف ما إذا كانت تلك العلة قد زالت مع استمرار الحركة. وكان هؤلاء، الذين حاولوا أن يدللوا بها على بطلان القانون الفلسفي، زعموا أن العلة الحقيقية للحركة هي القوة الخارجية المحركة، ولما كانت هذه القوة قد انقطعت صلتها بالحركة، واستمرت الحركة بالرغم من ذلك، فيكشف ذلك عن استمرار الحركة بعد زوال علتها.
ولكن الواقع أن التجربة لا تدل على أن القوة الدافعة من خارج هي العلة الحقيقية، ليستقيم لهم هذا الاستنتاج، بل من الجائز أن يكون السبب الحقيقي للحركة، شيئًا موجودًا على طول الخط. والفلاسفة الإسلاميون، يعتقدون أن الحركات العرضية - بما فيها الحركة الميكانيكية للجسم - تتولد جميعَا من قوة قائمة بنفس الجسم. فهذه القوة هي المحركة الحقيقية، والأسباب الخارجية، إنما تعمل لإثارة هذه القوة واعدادها للتأثير. وعلى هذا الأساس قام مبدأ الحركة الجوهرية.... ولسنا نستهدف الآن الإفاضة في هذا الحديث، وإنما نرمي من ورائه إلى توضيح أن التجربة العلمية، التي قام على أساسها قانون القصور الذاتي، لا تتعارض مع قوانين العلية، ولا تبرهن على ما يعاكسها مطلقَا.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ علي المشكيني
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد عباس نور الدين
عدنان الحاجي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد مهدي الآصفي
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
عبدالله طاهر المعيبد
حبيب المعاتيق
شفيق معتوق العبادي
جاسم بن محمد بن عساكر
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
ميتافيزيقا المثنَّى؛ دُربة المعرفة إلى توحيد الله وتوحيد العالم (3)
في مفهوم ولطائف آية: (وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)
في اليقين
فكرة المجتمع في نهج البلاغة
التّعاصر بين العلّة والمعلول
الأشهر القمرية هي الأشهر الطبيعية
السّلامة الشّاملة بالعربيّة، جديد الكاتب مصطفى مهدي آل غزوي
إبراهيم عليه السلام من المذبح إلى الإمامة
فتح صفحة جديدة مع الله تعالى
ميتافيزيقا المثنَّى؛ دُربة المعرفة إلى توحيد الله وتوحيد العالم (2)