علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطبطبائي
عن الكاتب :
مفسر للقرآن،علامة، فيلسوف عارف، مفكر عظيم

معنى الفلسفة والفلسفة الإلهيّة

كان الإنسان، ولسوف يبقى محبًّا للوجود الخارجي، بخارجيّته وواقعيّته، لا يهمّه شيء سواه، ولا يلتفت عنه إلى غيره، ولا غير هناك.

 

ومن الواضح - بعد هذا - أنّ قضاء العقل وحكم الوجدان بالواقعيّة، والإذعان بالوجود الخارجي (أنّ هناك موجودًا خارجًا) هو من المعلوم الأوّليّة، والمعارف الأصليّة، تتطابق فيه جميع صفات البداهة، وشرائطها..

 

فالوليد الحديث السنّ بشعوره الطريّ، الموهوب له - إذا تعمّقنا في حالاته - نرى أنّه أوّل الأمر يتناول الثدي ليتغذّى باللبن المعدّ له فيه تارة، ويتناول غير الثدي؛ للغرض نفسه تارة أخرى.. ولكنّه بعد تعدّد ذلك منه يقتصر على الثدي - في ذلك - ويعرض عن غيره..

 

ثمّ بعد ذلك نراه يتناول المأكول، من فاكهة، أو خبز، أو نحوهما، ويتناول غير المأكول كالحصاة والخشبة ونحوهما، ويلتقم ويمضغ هذا، كما يلتقم ويمضغ ذاك.

 

ثمّ.. وبعد تعدّد ذلك منه لا يتناول إلّا ما يصح أكله، ويجتنب غيره. وليس ذلك منه إلّا لأنّ تصديقه الأوّلي بالواقعيّة الخارجيّة، والوجود الحقّ يضطرّه إلى تمييز الحقّ من الباطل، والصواب من الخطأ... وبالجملة: تمييز كلّ واقعيّة من غيرها، ثمّ التزام الواقعيّة، والإعراض عن غيرها..

 

وإذا توسّعنا في الملاحظة والبحث، وتصفّحنا أحوال أبناء نوعنا، أينما كانوا، وحيثما وجدوا، وأيًّا كانت الحالة التي هم عليها.. وجدنا أنّهم يسلكون عين هذا المسلك، ويسيرون في نفس هذا الطريق.. فلا يدّخرون وسعًا، ولا يألون جهًدا في التمييز بين الحقّ والباطل، والصواب من الخطأ، في جميع شؤون حياتهم، التي تنال عنايتهم، وتحظى باهتمامهم.. فلا همّ للإنسان إلّا أن يحفظ نفسه من الوقوع في الخطأ والغلط، ومن أن يأخذ غير الواقع على أنّه الواقع، أو العكس..

 

وهكذا كان أيضًا حال الأمم والشعوب الخالية، فرادى وجماعات، فإنّهم كانوا يبحثون دائمًا عن واقعيّة الأشياء بهدف تمييزها من غيرها ممّا يشتبه بها، ثمّ يأخذون بما يرونه حقًّا وصوابًا، بحسب طلبتهم، وعلى وفق بغيتهم، ويظهر ذلك بجلاء لكلّ من راجع ما يصفه التاريخ من سيرهم وسننهم، ولاحظ آثارهم العمرانيّة، وغيرها من أعمالهم.

 

هذا.. ولم يزل الإنسان محبًّا، بل ومغرمًا بهذا النوع من البحث - وهذا هو بالذات ما نسمّيه بحثًا فلسفيًّا - في جميع ما يرتبط به وجوده، ومختلف شؤون حياته، وإن لم يشعر هو بذلك تفصيلًا، ويلتفت إليه بالفعل، فإنّ ذلك الدافع النفسي نحو التمييز - والذي يرتبط في الحقيقة بإنسانيّة الإنسان - يقوم بعمله بانتظام، ومن دون أي عيّ أو كلال... ويسير الإنسان قدمًا في هذا الخطّ، في جزئيّات مقاصده ومبتغياته، وما يرتبط بشؤون حياته المحدودة... لكنّه ربّما عمّم البحث بما جبل عليه من قريحة التعميم.. ليبحث عن الوجود وأنواعه وخواصّه وأحكامه من جهة عامّة.. فيفكّر في العلّة والمعلول، والإمكان والوجوب، والقوّة والفعل، والقدم والحدوث.

 

وهذه الأبحاث والدراسات، وإن كانت ليست بعيدة كلّ البعد عن شعور الإنسان، حيث إنّه يحسّ ويشعر بها إجمالًا، إلّا أنّها هي التي نبّهت الإنسان إلى الانتقال في البحث من عالم الطبيعة إلى ما وراءها.. كما أنّها هي التي حملته على التوغّل في البحث عن أوائل الوجود عندما وجد أنّ العالم المادي في نفسه محتاج، ومفتقر إلى غيره، أي لا يقوم وجوده بنفسه من دون أن يعتمد على ما يدفع عنه حاجته وخلّته، حيث كان استقلاله في وجوده دائمًا محتاجًا، ومنتهياً إلى ما لا يكون استقلاله في الوجود محتاجًا ومنتهيًا إلى شيء آخر... وهذه هي الفلسفة الباحثة عن اللّه عزّ اسمه؛ لأنّه هو الذي لا يحتاج استقلاله في الوجود إلى أي شيء آخر، وتحتاج جميع الأشياء إليه في وجودها المستقلّ.

 

وهذا، وإن كان في نفسه واحدًا من تلك الموضوعات الكثيرة، التي تطرح للبحث في الفلسفة العامّة.. إلّا أنّ الأهمّية التي له تفوق أهمّية أي بحث فلسفي آخر من حيث إنّه يترك أثرًا ظاهرًا وهامًّا جدًّا في كلّ الأبحاث والدراسات الفلسفيّة العامّة الأخرى، من دون استثناء؛ إذ إنّ الحصول على النتيجة فيه - وهو التوحيد - يحوّل الأبحاث الفلسفيّة من حال التفرّق والتشتّت إلى حال التوحّد والترابط والتآلف، ويبرزها في حلّة أبهى، وزينة أكثر جاذبيّة، وجمال أشدّ سحرًا.. عندما يربط جميع الموجودات على كثرتها بموجود واحد، هو باريها ومبديها..

 

وهذه الحقيقة يجدها الباحث المتتبّع واضحة جليّة فيما ورثناه من الأقوال الفلسفيّة، من «الهند»، و«مصر القديمة»، و«بابل»، و«الروم»، و«اليونان».. وأيضًا في المأثور من كلمات المحصّلين من فلاسفة الإسلام..

 

هذا من جهة... ومن جهة ثانية.. فإنّ ما بأيدينا من الكتب السماويّة المنسوبة إلى «موسى» و«عيسى» وغيرهما عليهم السّلام.. ثمّ ما حكاه اللّه في كتابه العزيز عن الأنبياء عليهم السّلام على اختلاف طبقاتهم، ثمّ ما ختم به (عزّ وجلّ) ذلك ممّا أوحاه على خاتمهم.. كلّ ذلك إذا تأمّل الباحث فيه، وتعمّق في درسه يرى أنّ البحث في اللاهوت – كان ولا يزال - ينمو ويتطوّر ويتكامل في الصفاء والجلاء، ويتدرّج في درجات الكمال.. وكلّما زاد في الوضوح والصفاء اتّسع أفقه، وانحلّت به مبهمات، واتّضحت به مجاهيل، بل وتقوّمت به مطالب ساذجة ناقصة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد