قرآنيات

الرؤية الكونية

السيد موسى الصدر

 

﴿الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان * الشمس والقمر بحسبان * والنجم والشجر يسجدان * والسماء رفعها ووضع الميزان﴾ [الرحمن، 1-7]

 

 [...] هناك من يتجاوز نطاق الفرد ويصل إلى المجتمع ويحاول أن يخلق مجتمعًا صالحًا لكي يعيش فيه الإنسان الصالح ولكي يعلو الخير. وهذه الطريقة التي تأخذ بعين الاعتبار الجانب الفردي والاجتماعي للإنسان أنجح من الطريقتين الأوليين. الإنسان المنفتح على الوسائل التربوية البشرية... وهو ما يشير القرآن إليه في وجوب الاهتمام بالأمر والنهي، وترسيخ المعتقد لتثقيف النفس وتزكيتها، ووضع المجتمع المناسب للعمل الصالح، يتخطى هذه الطرق التي يشترك فيها نتيجة الأفكار المحركة للتاريخ لكي يصل إلى ما يختص به القرآن، وهو إعطاء صورة جديدة أو سمِّها بالمصطلح المعاصر صورة ثورية للرؤية الكونية الإنسانية لكي يأخذ الإنسان هذه الرؤية أو يعيش من خلال هذه الرؤية الكونية كفرد أو كمجتمع واقعًا منسجمًا مع الكون، ومنسجمًا مع المجتمع ومنسجمًا مع نفسه.

 

وهذا الأسلوب واضح في سورة الرحمن مثل بقية القرآن لأنه في سورة الرحمن نجد أن القرآن الكريم يقول إعدادًا للمقدمات: ﴿الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان * الشمس والقمر بحسبان * والنجم والشجر يسجدان﴾، يقول: ﴿والسماء رفعها ووضع الميزان﴾، أي أن الله سبحانه وتعالى رفع السماء ووضع الميزان، أي ميزان هذا؟ نِعْم الميزان، أي أن كل شيء تحت السماء وفي الوجود موزون ودقيق وله حساب، وأن لكل شيء قدرًا ووزنًا. إذًا، رسم أمام الإنسان القرآن الكريم صورة موزونة دقيقة لكي يضيف بعد هذه الجملة: ﴿والسماء رفعها ووضع الميزان * ألا تطغوا في الميزان * وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان﴾ [الرحمن، 7-9].

 

إذًا، أيها الإنسان الذي تعيش تحت السماء التي وُضَعِ فيها الميزان، لا شك أنك تهتم بالميزان وتمشي في الخط الإلهي، وإلا فأنت غريب عن هذا الكون، وأنت تفشل في حياتك في هذا الكون إذا كنتَ ماشيًا في تيار غير تيار الكون. وانطلاقًا من هذا المبدأ، نجد في هذه الآيات الكلمات نفس المحاولة بصورة أوسع: ﴿ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق﴾ [الأحقاف، 3].

 

إذًا، الكون قائم على أساس من الحق، فالإنسان الذي يريد أن يكون منسجمًا مع كونه، ناجحًا في حياته عليه أن يسلك سبيل الحق. ثم نصل إلى هذه الكلمة المعجزة: ﴿ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى﴾ [الأحقاف، 3]، الكون قائم على أساس الأجل المسمى، أي أن الموجودات كلها، وأن الحركات كلها، وأن الطاقات كلها، وكل ما هو موجود في الكون قائم على أساس المدة، وقائم على أساس المدة المحددة.

 

إذًا، إذا أراد الإنسان أن يعمل أي عمل في هذا الكون، ويريد أن ينجح في هذا العمل فعليه أن يضع لنفسه خطة زمنية، ولا يمكن الارتجال، ولا يمكن الوصول إلى الأهداف مع حرق القواصد والتقاعس للأبدان ولكن يجب أن يكون الأجل هذا مسمىً ومحددًا لا مسوّفًا مؤجلًا بدون أجل سابق. فإذًا، الخطة الزمنية المحددة من أجل نجاح الإنسان في حياته.

 

ولأن الكون خُلِق في ستة أيام كما يقول القرآن الكريم، أي في ستة عصور، أو في ستة عقود ودهور، لا في ستة أيام بمعنى الليل والنهار ......، فإذًا، الكون خُلِق لا دفعة واحدة مع العلم أن القرآن الكريم يؤكد أن الله سبحانه وتعالى يقول للشيء كن فيكون، ولكن خلق العالم في أجل ومحدد لكي يعيش الإنسان... أو يقول القرآن الكريم هذا الطرح ويعطي هذه الرؤية لكي يعيش الإنسان في حياته في حركاته في خططه في أهدافه مع الأجل المسمى؛ لا يحاول في لحظة واحدة أن يتثقف أو أن يغتني أو أن يكسب جاهًا أو تجربة، بل عليه أن يضع وقتًا لتحصيل المال أو الثقافة أو الجاه أو الصحة أو المرأة أو السيارة، ولكن عليه أن يحدد وقتًا محددًا حتى لا يبتلي بالتسويف وبالتأخير.

 

وهذه المعاني والمفاهيم التربوية أي أن القرآن الكريم يطرح صورة كونية لكي يكون الإنسان ملتزمًا مع هذه الصورة في حياته وفي تصرفاته، وإلا فهو شخص غير منسجم مع البيئة التي يعيش فيها، وبالتالي إنسان فاشل. ومما يوضح هذا المفهوم تتمة الآية: ﴿والذين كفروا عما أُنذروا معرضون﴾ [الأحقاف، 3]، الكفر إعراض عن الإنذار الإلهي، وعن اللطائف الإلهية وأن الدين ليس لمصلحة أولى وإنما هو لتسهيل وضع الإنسان ونجاح الإنسان في حياته.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد