... وكذا قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، فإنه ظاهر في أن الذي يعجز الناس عن الإتيان بمثل القرآن إنما هو كونه في نفسه على صفة عدم الاختلاف لفظًا ومعنى ولا يسع لمخلوق أن يأتي بكلام غير مشتمل على الاختلاف، لا أن الله صرفهم عن مناقضته بإظهار الاختلاف الذي فيه هذا، فما ذكروه من أن إعجاز القرآن بالصرف كلام لا ينبغي الركون إليه.
وأما الإشكال باستلزام الإعجاز من حيث البلاغة المحال، بتقريب أن البلاغة من صفات الكلام الموضوع ووضع الكلام من آثار القريحة الإنسانية فلا يمكن أن يبلغ من الكمال حدًّا لا تسعه طاقة القريحة وهو مع ذلك معلول لها لا لغيرها، فالجواب عنه أن الذي يستند من الكلام إلى قريحة الإنسان إنما هو كشف اللفظ المفرد عن معناه، وأما سرد الكلام ونضد الجمل بحيث يحاكي جمال المعنى المؤلف وهيئته على ما هو عليه في الذهن بطبعه حكاية تامة أو ناقصة وإراءة واضحة أو خفية، وكذا تنظيم الصورة العلمية في الذهن بحيث يوافق الواقع في جميع روابطه ومقدماته ومقارناته ولواحقه أو في كثير منها أو في بعضها دون بعض فإنما هو أمر لا يرجع إلى وضع الألفاظ بل إلى نوع مهارة في صناعة البيان وفن البلاغة تسمح به القريحة في سرد الألفاظ ونظم الأدوات اللفظية ونوع لطف في الذهن يحيط به القوة الذاهنة على الواقعة المحكية بأطرافها ولوازمها ومتعلقاتها.
فهاهنا جهات ثلاث يمكن أن تجتمع في الوجود أو تفترق فربما أحاط إنسان بلغة من اللغات فلا يشذ عن علمه لفظ لكنه لا يقدر على التهجي والتكلم، وربما تمهر الإنسان في البيان وسرد الكلام لكن لا علم له بالمعارف والمطالب فيعجز عن التكلم فيها بكلام حافظ لجهات المعنى حاك لجمال صورته التي هو عليها في نفسه، وربما تبحر الإنسان في سلسلة من المعارف والمعلومات ولطفت قريحته ورقت فطرته لكن لا يقدر على الإفصاح عن ما في ضميره وعي عن حكاية ما يشاهده من جمال المعنى ومنظره البهيج.
فهذه أمور ثلاثة: أولها راجع إلى وضع الإنسان بقريحته الاجتماعية، والثاني والثالث راجعان إلى نوع من لطف القوة المدركة، ومن البين أن إدراك القوى المدركة منا محدودة مقدرة لا نقدر على الإحاطة بتفاصيل الحوادث الخارجية والأمور الواقعية بجميع روابطها، فلسنا على أمن من الخطأ قط في وقت من الأوقات، ومع ذلك فالاستكمال التدريجي الذي في وجودنا أيضًا يوجب الاختلاف التدريجي في معلوماتنا أخذًا من النقص إلى الكمال، فأي خطيب أشدق وأي شاعر مفلق فرضته لم يكن ما يأتيه في أول أمره موازنًا لما تسمح به قريحته في أواخر أمره؟ فلو فرضنا كلامًا إنسانيًّا أي كلام فرضناه لم يكن في مأمن من الخطأ لفرض عدم اطلاع متكلمه بجميع أجزاء الواقع وشرائطه أولًا ولم يكن على حد كلامه السابق ولا على زنة كلامه اللاحق بل ولا أوله يساوي آخره وإن لم نشعر بذلك لدقة الأمر، لكن حكم التحول والتكامل عام ثانيًا، وعلى هذا فلو عثرنا على كلام فصل لا هزل فيه وجد الهزل هو القول بغير علم محيط ولا اختلاف يعتريه لم يكن كلامًا بشريًّا، وهو الذي يفيده القرآن بقوله: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا} [النساء - 82]، وقوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 11 - 14]. انظر إلى موضع القسم بالسماء والأرض المتغيرتين والمعنى المقسم به في عدم تغيره واتكائه على حقيقة ثابتة هي تأويله...
وقوله تعالى: {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ} [البروج - 22]، وقوله تعالى: {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 2 - 4] وقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75، 76]، فهذه الآيات ونظائرها تحكي عن اتكاء القرآن في معانيه على حقائق ثابتة غير متغيرة ولا متغير ما يتكي عليها.
إذا عرفت ما مر علمت أن استناد وضع اللغة إلى الإنسان لا يقتضي أن لا يوجد تأليف كلامي فوق ما يقدر عليه الإنسان الواضع به، وليس ذلك إلا كالقول بأن القين الصانع للسيوف يجب أن يكون أشجع من يستعملها وواضع النرد والشطرنج يجب أن يكون أمهر من يلعب بهما ومخترع العود يجب أن يكون أقوى من يضرب بها.
فقد تبين من ذلك كله أن البلاغة التامة معتمدة على نوع من العلم المطابق للواقع من جهة مطابقة اللفظ للمعنى ومن جهة مطابقة المعنى المعقول للخارج الذي يحكيه الصورة الذهنية.
أما اللفظ فأن يكون الترتيب الذي بين أجزاء اللفظ بحسب الوضع مطابقًا للترتيب الذي بين أجزاء المعنى المعبر عنه باللفظ بحسب الطبع فيطابق الوضع الطبع كما قال الشيخ عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز.
وأما المعنى فأن يكون في صحته وصدقه معتمدًا على الخارج الواقع بحيث لا يزول عما هو عليه من الحقيقة، وهذه المرتبة هي التي يتكي عليها المرتبة السابقة، فكم من هزل بليغ في هزليته لكنه لا يقاوم الجد، وكم من كلام بليغ مبني على الجهالة لكنه لا يعارض ولا يسعه أن يعارض الحكمة، والكلام الجامع بين عذوبة اللفظ وجزالة الأسلوب وبلاغة المعنى وحقيقة الواقع هو أرقى الكلام.
وإذا كان الكلام قائمًا على أساس الحقيقة ومنطبق المعنى عليها تمام الانطباق لم يكذب الحقائق الآخر ولم تكذبه فإن الحق مؤتلف الأجزاء ومتحد الأركان، لا يبطل حق حقًّا، ولا يكذب صدق صدقًا، والباطل هو الذي ينافي الباطل وينافي الحق، انظر إلى مغزى قوله سبحانه وتعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32]، فقد جعل الحق واحدًا لا تفرق فيه ولا تشتت.
وانظر إلى قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ} [الأنعام : 153]. فقد جعل الباطل متشتتًا ومشتتًا ومتفرقًا ومفرقًا.
وإذا كان الأمر كذلك فلا يقع بين أجزاء الحق اختلاف بل نهاية الائتلاف، يجر بعضه إلى بعض، وينتج بعضه البعض كما يشهد بعضه على بعض ويحكي بعضه البعض.
وهذا من عجيب أمر القرآن فإن الآية من آياته لا تكاد تصمت عن الدلالة ولا تعقم عن الإنتاج، كلما ضمت آية إلى آية مناسبة أنتجت حقيقة من أبكار الحقائق ثم الآية الثالثة تصدقها وتشهد بها، هذا شأنه وخاصته، وسترى في خلال البيانات في هذا الكتاب نبذًا من ذلك، على أن الطريق متروك غير مسلوك ولو أن المفسرين ساروا هذا المسير لظهر لنا إلى اليوم ينابيع من بحاره العذبة وخزائن من أثقاله النفيسة.
فقد اتضح بطلان الإشكال من الجهتين جميعًا فإن أمر البلاغة المعجزة لا يدور مدار اللفظ حتى يقال إن الإنسان هو الواضع للكلام فكيف لا يقدر على أبلغ الكلام وأفصحه وهو واضح أو يقال إن أبلغ التركيبات المتصورة تركيب واحد من بينها فكيف يمكن التعبير عن معنى واحد بتركيبات متعددة مختلفة السياق والجميع فائقة قدرة البشر بالغة حد الإعجاز بل المدار هو المعنى المحافظ لجميع جهات الذهن والخارج.
عدنان الحاجي
السيد جعفر مرتضى
الشيخ حسن المصطفوي
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ محمد مصباح يزدي
الشيخ محمد صنقور
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
السيد عباس نور الدين
حسين حسن آل جامع
حبيب المعاتيق
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
فريد عبد الله النمر
أحمد الرويعي
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر