يهتم القرآن بأمر المنافقين اهتمامًا بالغًا، ويكرّ عليهم كرة عنيفة بذكر مساوئ أخلاقهم وأكاذيبهم وخدائعهم ودسائسهم والفتن التي أقاموها على النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وعلى المسلمين، وقد تكرر ذكرهم في السور القرآنية كسورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والعنكبوت والأحزاب والفتح والحديد والحشر والمنافقون والتحريم.
وقد أوعدهم اللّه في كلامه أشد الوعيد ففي الدنيا بالطبع على قلوبهم، وجعل الغشاوة على سمعهم وعلى أبصارهم وإذهاب نورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون وفي الآخرة بجعلهم في الدرك الأسفل من النار.
وليس ذلك إلّا لشدة المصائب التي أصابت الإسلام والمسلمين من كيدهم ومكرهم وأنواع دسائسهم، فلم ينل المشركون واليهود والنصارى من دين اللّه ما نالوه، وناهيك فيهم قوله تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يشير إليهم: (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) «1».
وقد ظهر آثار دسائسهم ومكائدهم أوائل ما هاجر النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم إلى المدينة فورد ذكرهم في سورة البقرة وقد نزلت - على ما قيل - على رأس ستة أشهر من الهجرة ثم في السور الأخرى النازلة بعد بالإشارة إلى أمور من دسائسهم وفنون من مكائدهم كانسلالهم من الجند الإسلامي يوم أحد وهم ثلثهم تقريبًا، وعقدهم الحلف مع اليهود واستنهاضهم على المسلمين وبنائهم مسجد الضرار وإشاعتهم حديث الإفك، وإثارتهم الفتنة في قصة السقاية وقصة العقبة إلى غير ذلك مما تشير إليه الآيات حتى بلغ أمرهم في الإفساد وتقليب الأمور على النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم إلى حيث هددهم اللّه بمثل قوله: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا) «2».
وقد استفاضت الأخبار وتكاثرت في أن عبد اللّه بن أبيّ بن سلول وأصحابه من المنافقين وهم الذين كانوا يقلبون الأمور على النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، ويتربصون به الدوائر وكانوا معروفين عند المؤمنين يقربون من ثلث القوم وهم الذين خذلوا المؤمنين يوم أحد فانمازوا منهم ورجعوا إلى المدينة قائلين لو نعلم قتالًا لأتبعناكم وهم عبد اللّه بن أبيّ وأصحابه.
ومن هنا ذكر بعضهم أن حركة النفاق بدأت بدخول الإسلام المدينة واستمرت إلى قرب وفاة النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.
هذا ما ذكره جمع منهم لكن التدبّر في حوادث زمن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم والإمعان في الفتن الواقعة بعد الرحلة والاعتناء بطبيعة الاجتماع الفعالة يقضي عليه بالنظر:
أما أولً : فلا دليل مقنعًا على عدم تسرب النفاق في متبعي النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم المؤمنين بمكة قبل الهجرة، وقول القائل: إن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم والمسلمين بمكة قبل الهجرة لم يكونوا من القوة ونفوذ الأمر وسعة الطول بحيث يهابهم الناس ويتقوهم أو يرجوا منهم خيرًا حتى يظهروا لهم الإيمان ظاهرًا ويتقربوا منهم بالإسلام، وهم مضطهدون مفتنون معذبون بأيدي صناديد قريش ومشركي مكة المعادين لهم المعاندين للحق بخلاف حال النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بالمدينة بعد الهجرة فإنه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم هاجر إليها وقد كسب أنصارًا من الأوس والخزرج واستوثق من أقوياء رجالهم أن يدفعوا عنه كما يدفعون عن أنفسهم وأهليهم.
وقد دخل الإسلام في بيوت عامتهم فكان مستظهرًا بهم على العدة القليلة الذين لم يؤمنوا به وبقوا على شركهم ولم يكن يسعهم أن يعلنوا مخالفتهم ويظهروا شركهم فتوقوا الشر بإظهار الإسلام فآمنوا به ظاهرًا وهم على كفرهم باطنًا فدسّوا الدسائس ومكروا ما مكروا غير تام، فما القدرة والقوة المخالفة المهيبة ورجاء الخير بالفعل والاستدرار المعجل علة منحصرة للنفاق حتى يحكم بانتفاء النفاق لانتفائها، فكثيرًا ما نجد في المجتمعات رجالًا يتبعون كل داع ويتجمعون إلى كل ناعق، ولا يعبأون بمخالفة القوى المخالفة القاهرة الطاحنة، ويعيشون على خطر مصرّين على ذلك رجاء أن يوفقوا يومًا لإجراء مرامهم ويتحكموا على الناس باستقلالهم بإدارة رحى المجتمع والعلوّ في الأرض وقد كان النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يذكر في دعوته لقومه أن لو آمنوا به واتبعوه كانوا ملوك الأرض.
فمن الجائز عقلًا أن يكون بعض من آمن به يتبعه في ظاهر دينه طمًعا في البلوغ بذلك إلى أمنيته وهي التقدم والرئاسة والاستعلاء، والأثر المترتب على هذا النوع من النفاق ليس هو تقليب الأمور وتربص الدوائر على الإسلام والمسلمين وإفساد المجتمع الديني، بل تقويته بما أمكن وتفديته بالمال والجاه لينتظم بذلك الأمور ويتهيأ لاستفادته منه واستدراره لنفع شخصه. نعم يمكر مثل هذا المنافق بالمخالفة والمضادة فيما إذا لاح من الدين مثلًا ما يخالف أمنية تقدمه وتسلّطه إرجاعًا للأمر إلى سبيل ينتهي إلى غرضه الفاسد.
وأيضًا من الممكن أن يكون بعض المسلمين يرتاب في دينه فيرتد ويكتم ارتداده كما مرّت الإشارة إليه في قوله تعالى: (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا)، وكما يظهر من لحن مثل قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ) «3».
وأيضًا الذين آمنوا من مشركي مكة يوم الفتح لا يؤمن أكثرهم أن لا يؤمنوا إيمان صدق وإخلاص من البديهي عند من تدبّر في حوادث سني الدعوة أن كفار مكة وما والاها وخاصة صناديد قريش ما كانوا ليؤمنوا بالنبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لولا سواد جنود غشيتهم وبريق سيوف مسلطة فوق رؤوسهم يوم الفتح، وكيف يمكن مع ذلك القضاء بأنه حدث في قلوبهم والظرف هذا الظرف نور الإيمان وفي نفوسهم الإخلاص واليقين فآمنوا باللّه طوعًا عن آخرهم ولم يدبّ فيهم دبيب النفاق أصلًا.
وأما ثانيًا: فلأن استمرار النفاق إلى قرب رحلة النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وانقطاعه عند ذلك ممنوع، نعم انقطع الخبر عن المنافقين بالرحلة وانعقاد الخلافة وانمحى أثرهم فلم يظهر منهم ما كان يظهر من الآثار المضادة والمكائد والدسائس المشؤومة.
فهل كان ذلك لأن المنافقين وفقوا للإسلام وأخلصوا الإيمان عن آخرهم برحلة النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وتأثرت قلوبهم من موته ما لم يتأثر بحياته؟ أو أنهم صالحوا أولياء الحكومة الإسلامية على ترك المزاحمة بأن يسمح لهم ما فيه أمنيتهم مصالحة سرية بعد الرحلة أو قبلها؟ أو أنه وقع هناك تصالح اتفاقي بينهم وبين المسلمين فوردوا جميعًا في مشرعة سواء فارتفع التصاكّ والتصادم؟
ولعل التدبّر الكافي في حوادث آخر عهد النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، والفتن الواقعة بعد رحلته يهدي إلى الحصول على جواب شاف لهذه الأسئلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة المنافقون: 4.
(2) سورة الأحزاب: 61.
(3) سورة المائدة: 54.
السيد عباس نور الدين
الشيخ محمد مصباح يزدي
عدنان الحاجي
الشيخ محمد الريشهري
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ مرتضى الباشا
الشيخ محمد جواد مغنية
الشيخ محمد مهدي الآصفي
الدكتور محمد حسين علي الصغير
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
ما الذي ينبغي أن نفعله لجعل مجتمعنا إسلاميًّا بالكامل
أقسام الحرب وأنواعها الواردة في القرآن الكريم (1)
المركز الأوّل لحسين آل هاشم في مسابقة فوتوغرافيّة في مصر
مجموعة عصبونات في جذع الدماغ مسؤولة عن الشهية للملح
لقمان الحكيم (3)
لقمان الحكيم (2)
خطورة ذياع صيت الإنسان بين الناس واشتهاره بينهم
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ
هل الكون كسوريّ؟
الشيخ عبد الكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (10)