إنّ القرآن يقتص ويخبر عن جملة من الحوادث والوقائع لا يساعد عليه جريان العادة المشهودة في عالم الطبيعة على نظام العلّة والمعلول الموجود، وهذه الحوادث الخارقة للعادة هي الآيات المعجزة التي ينسبها إلى عدّة من الأنبياء الكرام كمعجزات نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وداود وسليمان وموسى وعيسى ومحمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فإنّها أمور خارقة للعادة المستمرة في نظام الطبيعة.
لكن يجب أن يعلم أنّ هذه الأمور والحوادث وإن أنكرتها العادة واستبعدتها، إلّا أنّها ليست أمورًا مستحيلة بالذات بحيث يبطلها العقل الضروري كما يبطل قولنا الإيجاب والسلب يجتمعان معًا ويرتفعان معًا من كل جهة، وقولنا الشيء يمكن أن يسلب عن نفسه وقولنا الواحد ليس نصف الاثنين وأمثال ذلك من الأمور الممتنعة بالذات، كيف وعقول جمّ غفير من الملايين منذ أعصار قديمة تقبل ذلك وترتضيه من غير إنكار ورد، ولو كانت المعجزات ممتنعة بالذات لم يقبلها عقل عاقل ولم يستدلّ بها على شيء ولم ينسبها أحد إلى أحد.
على أنّ أصل هذه الأمور أعني المعجزات ليس ممّا تنكره عادة الطبيعة، بل هي ممّا يتعاوره نظام المادّة كل حين بتبديل الحي إلى ميّت والميّت إلى الحي وتحويل صورة إلى صورة وحادثة إلى حادثة ورخاء إلى بلاء وبلاء إلى رخاء، وإنّما الفرق بين صنع العادة وبين المعجزة الخارقة هو أنّ الأسباب الماديّة المشهودة التي بين أيدينا إنّما تؤثر أثرها مع روابط مخصوصة وشرائط زمانيّة ومكانيّة خاصّة تقضي بالتدريج في التأثير، مثلًا العصا وإن أمكن أن تصير حيّة تسعى والجسد البالي وإن أمكن أن يصير إنسانًا حيًّا، لكن ذلك إنّما يتحقّق في العادة بعلل خاصّة وشرائط زمانيّة ومكانيّة مخصوصة تنتقل بها المادّة من حال إلى حال وتكتسي صورة بعد صورة حتّى تستقر وتحل بها الصورة الأخيرة المفروضة على ما تصدّقه المشاهدة والتجربة، لا مع أي شرط اتّفق أو من غير علّة أو بإرادة مريد كما هو الظاهر من حال المعجزات والخوارق التي يقصها القرآن.
وكما أنّ الحس والتجربة الساذجين لا يساعدان على تصديق هذه الخوارق للعادة، كذلك النظر العلمي الطبيعي، لكونه معتمدًا على السطح المشهود من نظام العلّة والمعلول الطبيعيين، أعني به السطح الذي يستقرّ عليه التجارب العلمية اليوم والفرضيّات المعلّلة للحوادث الماديّة.
إلّا أن حدوث الحوادث الخارقة للعادة إجمالًا ليس في وسع العلم إنكاره والستر عليه، فكم من أمر عجيب خارق للعادة يأتي به أرباب المجاهدة وأهل الارتياض كل يوم تمتلي به العيون وتنشره النشريات ويضبطه الصحف والمسفورات بحيث لا يبقى لذي لب في وقوعها شك ولا في تحقّقها ريب.
وهذا هو الذي ألجأ الباحثين في الآثار الروحيّة من علماء العصر أن يعللوه بجريان أمواج مجهولة الكتريسية مغناطيسيّة فافترضوا أن الارتياضات الشاقّة تعطي للإنسان سلطة على تصريف أمواج مرموزة قويّة تملكه أو تصاحبه إرادة وشعور وبذلك يقدر على ما يأتي به من حركات وتحريكات وتصرفات عجيبة في المادّة خارقة للعادة بطريق القبض والبسط ونحو ذلك.
وهذه الفرضية لو تمت واطردت من غير انتقاض لأدّت إلى تحقّق فرضيّة جديدة وسيعة تعلل جميع الحوادث المتفرقة التي كانت تعلّلها جميعًا أو تعلل بعضها الفرضيات القديمة على محور الحركة والقوّة ولساقت جميع الحوادث الماديّة إلى التعلل والارتباط بعلّة واحدة طبيعية.
فهذا قولهم والحق معهم في الجملة إذ لا معنى لمعلول طبيعي لا علّة طبيعية له مع فرض كون الرابطة طبيعيّة محفوظة، وبعبارة أخرى إنّا لا نعني بالعلّة الطبيعيّة إلّا أن تجتمع عدّة موجودات طبيعية مع نسب وروابط خاصّة فيتكون منها عند ذلك موجود طبيعي جديد حادث متأخر عنها مربوط بها بحيث لو انتقض النظام السابق عليه لم يحدث ولم يتحقّق وجوده.
وأمّا القرآن الكريم فإنّه وإن لم يشخّص هذه العلّة الطبيعيّة الأخيرة التي تعلّل جميع الحوادث الماديّة العاديّة والخارقة للعادة (على ما نحسبه) بتشخيص اسمه وكيفيّة تأثيره لخروجه عن غرضه العام، إلّا أنّه مع ذلك يثبت لكل حادث مادي سببًا ماديًّا بإذن اللّه تعال ، وبعبارة أخرى يثبت أن لكل حادث مادي مستند في وجوده إلى اللّه سبحانه (والكل مستند) مجرى ماديًّا وطريقًا طبيعيًّا به يجري فيض الوجود منه تعالى إليه. قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) «1»، فإن صدر الآية يحكم بالإطلاق من غير تقييد أنّ كل من اتقى اللّه وتوكّل عليه وإن كانت الأسباب العادية المحسوبة عندنا أسبابًا تقضي بخلافه وتحكم بعدمه، فإنّ اللّه سبحانه حسبه فيه وهو كائن لا محالة، كما يدلّ عليه أيضًا إطلاق قوله تعالى: (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) «2»، وقوله تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) «3»، وقوله تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) «4».
ثمّ الجملة التالية وهي قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ) «5» يعلّل إطلاق الصدر، وفي هذا المعنى قوله: (وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) «6»، وهذه جملة مطلقة غير مقيّدة بشيء البتة، فللّه سبحانه سبيل إلى كلّ حادث تعلقت به مشيئته وإرادته وإن كانت السبل العادية والطرق المألوفة مقطوعة منتفية هناك.
وهذا يحتمل وجهين: أحدهما أن يتوسل تعالى إليه من غير سبب مادي وعلّة طبيعيّة بل بمجرّد الإرادة وحدها، وثانيهما أن يكون هناك سبب طبيعي مستور عن علمنا يحيط به اللّه سبحانه ويبلغ ما يريده من طريقه إلّا أن الجملة التالية من الآية المعللة لما قبلها أعني قوله تعالى (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً)، تدلّ على ثاني الوجهين فإنّها تدلّ على أن كلّ شيء من المسببات أعم مما تقتضيه الأسباب العادية أو لا تقتضيه فإنّ له قدرًا قدره اللّه سبحانه عليه، وارتباطات مع غيره من الموجودات واتصالات وجودية مع ما سواه، للّه سبحانه أن يتوسّل منها إليه وإن كانت الأسباب العادية مقطوعة عنه غير مرتبطة به إلّا أنّ هذه الاتصالات والارتباطات ليست مملوكة للأشياء أنفسها حتّى تطيع في حال وتعصى في أخرى بل مجعولة بجعله تعالى مطيعة منقادة له.
فالآية تدلّ على أنّه تعالى جعل بين الأشياء جميعها ارتباطات واتصالات له أن يبلغ إلى كلّ ما يريد من أي وجه شاء وليس هذا نفيًا للعليّة والسببيّة بين الأشياء بل إثبات أنّها بيد اللّه سبحانه يحولها كيف شاء وأراد، ففي الوجود عليّة وارتباط حقيقي بين كل موجود وما تقدّمه من الموجودات المنتظمة غير أنّها ليست على ما نجده بين ظواهر الموجودات بحسب العادة (ولذلك نجد الفرضيات العلمية الموجودة قاصرة عن تعليل جميع الحوادث الوجوديّة) بل على ما يعلمه اللّه تعالى وينظمه. وهذه الحقيقة هي التي تدلّ عليها آيات القدر كقوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) «7»، وقوله تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) «8»، وقوله تعالى: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) «9»، وقوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) «10»، وكذا قوله تعالى: (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) «11»، وقوله تعالى: (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) «12»، فإنّ الآية الأولى وكذا بقيّة الآيات تدلّ على أن الأشياء تنزل من ساحة الإطلاق إلى مرحلة التعين والتشخص بتقدير منه تعالى وتحديد يتقدّم على الشيء ويصاحبه ولا معنى لكون الشيء محدودًا مقدرًا في وجوده، إلّا أن يتحدّد ويتعيّن بجميع روابطه التي مع سائر الموجودات والموجود المادي مرتبط بمجموعة من الموجودات الماديّة الأخرى، التي هي كالقالب الذي يقلب به الشيء ويعيّن وجوده ويحدّده ويقدّره فما من موجود مادي إلّا وهو متقدّر مرتبط بجميع الموجودات الماديّة التي تتقدّمه وتصاحبه فهو معلول لآخر مثله لا محالة.
ويمكن أن يستدل أيضًا على ما مرّ بقوله تعالى: (ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) «13»، وقوله تعالى: (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) «14»، فإن الآيتين بانضمام ما مرّت الإشارة إليه من أنّ الآيات القرآنيّة تصدّق قانون العليّة العام، تنتج المطلوب.
وذلك أنّ الآية الأولى تعمم الخلقة لكلّ شيء فما من شيء إلّا وهو مخلوق للّه عزّ شأنه، والآية الثانية تنطق بكون الخلقة والإيجاد على وتيرة واحدة ونسق منتظم من غير اختلاف يؤدي إلى الهرج والجزاف، والقرآن كما عرفت أنه يصدق قانون العليّة العام في ما بين الموجودات الماديّة، ينتج أنّ نظام الموجود في الموجودات الماديّة سواء كانت على جري العادة أو خارقة لها على صراط مستقيم غير متخلف ووتيرة واحدة في استناد كلّ حادث فيه إلى العلّة المتقدّمة عليه الموجبة له. ومن هنا يستنتج أنّ الأسباب العادية التي ربما يقع التخلف بينها وبين مسبباتها ليست بأسباب حقيقية بل هناك أسباب حقيقيّة مطردة غير متخلفة الأحكام والخواص كما ربّما يؤيده التجارب العلمي في جراثيم الحياة وفي خوارق العادة كما مرّ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الطلاق - 3.
(2) البقرة - 186.
(3) المؤمن - 60.
(4) الزمر - 36.
(5) الطلاق - 3.
(6) يوسف - 21.
(7) الحجر - 21.
(8) القمر - 49.
(9) الفرقان - 2.
(10) الأعلى - 3.
(11) الحديد - 22.
(12) التغابن - 11.
(13) المؤمن - 62.
(14) هود - 56.
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
عدنان الحاجي
الأستاذ عبد الوهاب حسين
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
هل خلق آدم للجنّة أم للأرض؟
معنى (الدعاء الملحون)
اختلاف آراء الفلاسفة المادّيّين في حقيقة المادّة
كتاب الدّين والضّمير، تهافت وردّ
عوامل احتمال الإصابة بالسّكتة الدّماغيّة الحادّة
صراع الإسلام مع العلمانية
طريقة إعداد البحث
القانون والإيمان باللّه
المادة والحركة
فهم عالم المراهقة، محاضرة للعليوات في برّ سنابس