قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطبطبائي
عن الكاتب :
مفسر للقرآن،علامة، فيلسوف عارف، مفكر عظيم

كلام في معنى تأثير الإيمان

الدين هو السنّة الاجتماعيّة الّتي يسير بها الإنسان في حياته الدنيويّة الاجتماعيّة، والسنن الاجتماعيّة متعلّقة بالعمل مبنيّاً على أساس الاعتقاد في حقيقة الكون والإنسان الّذي هو جزء من أجزائه، ومن هنا ما نرى أنّ السنن الاجتماعيّة تختلف باختلاف الاعتقادات...

فمن يثبت للكون ربّاً يبتدئ منه وسيعود إليه وللإنسان حياة باقية لا تبطل بموت ولا فناء يسير في الحياة سيرة يراعي في الأعمال الجارية فيها سعادة الحياة الباقية والتنعّم في الدار الآخرة الخالدة.

ومن يثبت له إلهاً أو آلهة تدبّر الأمر بالرضا والسّخط من غير معاد إليه يعيش عيشة نظمها على أساس التقرّب من الآلهة وإرضائها للفوز بأمتعة الحياة والظفر بما يشتهيه من نعم الدنيا.

ومن لا يهتمّ بأمر الربوبيّة ولا يرى للإنسان حياة خالدة كالمادّيّين ومن يحذو حذوهم يبني سنّة الحياة والقوانين الموضوعة الجارية في مجتمعة على أساس التمتّع من الحياة الدنيا المحدودة بالموت.

 

فالدين سنّة عمليّة مبنيّة على الاعتقاد في أمر الكون والإنسان بما أنّه جزء من أجزائه، وليس هذا الاعتقاد هو العلم النظريّ المتعلّق بالكون والإنسان فإنّ العلم النظريّ لا يستتبع بنفسه عملاً وإن توقّف عليه العمل بل هو العلم بوجوب الجري على ما يقتضيه هذا النظر وإن شئت فقل: الحكم بوجوب اتّباع المعلوم النظريّ والالتزام به وهو العلم العمليّ كقولنا: يجب أن يعبد الإنسان الإله تعالى ويراعي في أعماله ما يسعد به في الدنيا والآخرة معاً.

ومعلوم أنّ الدعوة الدينيّة متعلّقة بالدين الّذي هو السنّة العمليّة المبنيّة على الاعتقاد، فالإيمان الّذي يتعلّق به الدعوة هو الالتزام بما يقتضيه الاعتقاد الحقّ في الله سبحانه ورسله واليوم الآخر وما جاءت به رسله وهو علم عمليّ.

والعلوم العمليّة تشتدّ وتضعف حسب قوّة الدواعي وضعفها فإنّا لسنا نعمل عملاً قطّ إلّا طمعاً في خير أو نفع أو خوفاً من شرّ أو ضرر، وربّما رأينا وجوب فعل لداع يدعو إليه ثمّ صرفنا عنه داع آخر أقوى منه وآثر، كمن يرى وجوب أكل الغذاء لرفع ما به من جوع فيصرفه عن ذلك علمه بأنّه مضرّ له مناف لصحّته، فبالحقيقة يقيّد الداعي المانع بما معه من العلم إطلاق العلم الّذي مع الداعي الممنوع كأنّه يقول مثلاً: إنّ التغذّي لرفع الجوع ليس يجب مطلقاً بل إنّما يجب إذا لم يكن مضرّاً بالبدن مضادّاً لصحّته.

ومن هنا يظهر أنّ الإيمان بالله إنّما يؤثّر أثره من الأعمال الصالحة والصفات الجميلة النفسانيّة كالخشية والخشوع والإخلاص ونحوها إذا لم تغلبه الدواعي الباطلة والتسويلات الشيطانيّة، وبعبارة أخرى إذا لم يكن إيماناً مقيّداً بحال دون حال كما قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى‏ حَرْفٍ) الحجّ: 61.

فالمؤمن إنّما يكون مؤمناً على الإطلاق إذا جرت أعماله على حاقّ ما يقتضيه إيمانه من الخشوع في عبادته والإعراض عن اللغو ونحوه.

 

قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) اللغو من الفعل هو ما لا فائدة فيه ويختلف باختلاف الأمور الّتي تعود عليها الفائدة فربّ فعل هو لغو بالنسبة إلى أمر وهو بعينه مفيد مجد بالنسبة إلى أمر آخر.

فاللغو من الأفعال في نظر الدين الأعمال المباحة الّتي لا ينتفع بها في الآخرة أو في الدنيا بحيث ينتهي أيضاً إلى الآخرة كالأكل والشرب بداعي شهوة التغذّي اللّذين يتفرّع عليهما التقوي على طاعة الله وعبادته، فإذا كان الفعل لا ينتفع به في آخرة ولا في دنيا تنتهي بنحو إلى آخرة فهو اللغو وبنظر أدقّ هو ما عدا الواجبات والمستحبّات من الأفعال.

ولم يصف سبحانه المؤمنين بترك اللغو مطلقاً فإنّ الإنسان في معرض العثرة ومزلّة الخطيئة وقد عفا عن السيّئات إذا اجتنبت الكبائر كما قال: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً) النساء: 31.

بل وصفهم بالإعراض عن اللغو دون مطلق تركه والإعراض يقتضي أمراً بالفعل يدعو إلى الاشتغال به فيتركه الإنسان صارفاً وجهه عنه إلى غيره لعدم اعتداده به واعتنائه بشأنه، ولازمه ترفّع النفس عن الأعمال الخسيسة واعتلاؤها عن الاشتغال بما ينافي الشرف والكرامة وتعلّقها بعظائم الأمور وجلائل المقاصد.

ومن حقّ الإيمان أن يدعو إلى ذلك فإنّ فيه تعلّقاً بساحة العظمة والكبرياء ومنبع العزّة والمجد والبهاء والمتّصف به لا يهتمّ إلّا بحياة سعيدة أبديّة خالدة فلا يشتغل إلّا بما يستعظمه الحقّ ولا يستعظم ما يهتمّ به سفلة الناس وجهلتهم، (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)، (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا).

ومن هنا يظهر أنّ وصفهم بالإعراض عن اللغو كناية عن علوّ همّتهم وكرامة نفوسهم.

 

قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) ذكر الزكاة مع الصلاة قرينة على كون المراد بها الإنفاق الماليّ دون الزكاة بمعنى تطهير النفس بإزالة رذائل الأخلاق عنها ولعلّ المراد بالزكاة المعنى المصدريّ وهو تطهير المال بالإنفاق منه دون المقدار المخرج من المال فإنّ السورة مكّيّة وتشريع الزكاة المعهودة في الإسلام إنّما كان بالمدينة ثمّ صار لفظ الزكاة علمًا بالغلبة للمقدار المعيّن المخرج من المال.

وبهذا يستصحّ تعلّق (لِلزَّكاةِ) بقوله: (فاعِلُونَ) والمعنى: الّذين هم فاعلون للإنفاق الماليّ وأمّا لو كان المراد بالزكاة نفس المال المخرج لم يصحّ تعلّقه به إذ المال المخرج ليس فعلاً متعلّقاً بفاعل، ولذا قدّر بعض من حمل الزكاة على هذا المعنى لفظ التأدية فكان التقدير عنده والّذين هم لتأدية الزكاة فاعلون، ولذا أيضاً فسّر بعضهم الزكاة بتطهير النفس عن الأخلاق الرذيلة فراراً من تعلّق (لِلزَّكاةِ) بقوله: (فاعِلُونَ).

وفي التعبير بقوله: (لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) دون أن يقول: للزكاة مؤدّون أو ما يؤدّي معناه دلالة على عنايتهم بها كقول القائل: إنّي شارب لمن أمره بشرب الماء فإذا أراد أن يفيد عنايته به قال: إنّي فاعل.

ومن حقّ الإيمان بالله أن يدعو إلى هذا الإنفاق الماليّ فإنّ الإنسان لا ينال كمال سعادته إلّا في مجتمع سعيد ينال فيه كلّ ذي حقّ حقّه ولا سعادة لمجتمع إلّا مع تقارب الطبقات في التمتّع من مزايا الحياة وأمتعة العيش، والإنفاق الماليّ على الفقراء والمساكين من أقوى ما يدرك به هذه البغية.

 

قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) إلى آخر الآيات الثلاث، الفروج جمع فرج وهو - على ما قيل - ما يسوء ذكره من الرجال والنساء، وحفظ الفروج كناية عن الاجتناب عن المواقعة سواء كانت زنا أو لواطاً أو بإتيان البهائم وغير ذلك.

وقوله: (إِلَّا عَلى‏ أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) استثناء من حفظ الفروج، والأزواج الحلائل من النساء، وما ملكت أيمانهم الجواري المملوكة فإنّهم غير ملومين في مسّ الأزواج الحلائل والجواري المملوكة.

وقوله: (فَمَنِ ابْتَغى‏ وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) تفريع على ما تقدّم من الاستثناء و المستثنى منه أي إذا كان مقتضى الإيمان حفظ الفروج مطلقاً إلّا عن طائفتين من النساء هما الأزواج وما ملكت أيمانهم، فمن طلب وراء ذلك أي مسّ غير الطائفتين فأولئك هم المتجاوزون عن الحدّ الّذي حدّه الله تعالى لهم.

قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) الأمانة مصدر في الأصل وربّما أُريد به ما ائتمن عليه من مال ونحوه، و هو المراد في الآية، ولعلّ جمعه للدلالة على أقسام الأمانات الدائرة بين الناس، وربّما قيل بعموم الأمانات لكلّ تكليف إلهيّ اؤتمن عليه الإنسان وما اؤتمن عليه من أعضائه وجوارحه وقواه أن يستعملها فيما فيه يرضي الله وما ائتمنه عليه الناس من الأموال وغيرها، ولا يخلو من بعد بالنظر إلى ظاهر اللفظ وإن كان صحيحاً من جهة تحليل المعنى وتعميمه.

والعهد بحسب عرف الشرع ما التزم به بصيغة العهد شقيق النذر واليمين، ويمكن أن يراد به مطلق التكليف المتوجّه إلى المؤمن فإنّ الله سبحانه سمّى إيمان المؤمن به عهداً وميثاقاً منه على ما توجّه إليه من تكاليفه تعالى بقوله: (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) البقرة: 100، وقوله: (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) الأحزاب: 15، ولعلّ إرادة هذا المعنى هو السبب في إفراد العهد لأنّ جميع التكاليف يجمعها عهد واحد بإيمان واحد.

والرعاية الحفظ، وقد قيل: إنّ أصل الرعي حفظ الحيوان إمّا بغذائه الحافظ لحياته أو بذبّ العدوّ عنه ثمّ استعمل في الحفظ مطلقاً. انتهى. ولعلّ العكس أقرب إلى الاعتبار.

وبالجملة الآية تصف المؤمنين بحفظ الأمانات من أن تخان والعهد من أن ينقض، ومن حقّ الإيمان أن يدعو إلى ذلك فإنّ في إيمانه معنى السكون والاستقرار والاطمئنان فإذا آمن أحد في أمانة أودعها عنده أو عهد عاهده وقطع على ذلك استقرّ عليه ولم يتزلزل بخيانة أو نقض.

 

قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) جمع الصلاة وتعليق المحافظة عليه دليل على أنّ المراد المحافظة على العدد فهم يحافظون على أن لا يفوتهم شي‏ء من الصلوات المفروضة ويراقبونها دائماً ومن حقّ إيمانهم أن يدعوهم إلى ذلك.

ولذلك جمعت الصلاة ههنا وأُفردت في قوله: (فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) لأنّ الخشوع في جنس الصلاة على حدّ سواء فلا موجب لجمعها.

قوله تعالى: (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) الفردوس أعلى الجنان، وقد تقدّم معناها وشي‏ء من وصفها في ذيل قوله تعالى: (كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا) الكهف: 107.

وقوله: (الَّذِينَ يَرِثُونَ) إلخ، بيان لقوله: (الْوارِثُونَ) ووراثتهم الفردوس هو بقاؤها لهم بعد ما كانت في معرض أن يشاركهم فيها غيرهم أو يملكها دونهم لكنّهم زالوا عنها فانتقلت إليهم، وقد ورد في الروايات أنّ لكلّ إنسان منزلاً في الجنّة ومنزلاً في النار فإذا مات ودخل النار ورث أهل الجنّة منزله....

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد